الرئيسة ›برامج›مع المصطفى›الروم أكثر الناس الروم أكثر الناس الثلاثاء 12 رمضان 1425هـ طباعة د. سلمان العودة 1723 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص وقفة مع حديث: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) بسم الله الرحمن الرحيم.اللهم لك الحمد، نحمدك ونثني عليك الخير كله ونشكرك، ونصلي ونسلم على خاتم رسلك، وأفضل أنبيائك، وخيرتك من خلقك، اللهم ارض عن أزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.في صحيح مسلم: أن المستورد بن شداد رضي الله عنه -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قال في مجلس كان فيه عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس. فقال له عمرو بن العاص رضي الله عنه: انظر ما تقول )؛ تأكد، هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ( قال له: ما أحدثك إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: تقوم الساعة والروم أكثر الناس. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: أما لئن قلت ذاك إن فيهم لأربع خصال: هم أحلم الناس عند فتنة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأرحمهم بمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك ). كلما قرأت هذا الحديث، وقرأت توصيف وتشخيص عمرو بن العاص رضي الله عنه لأخلاق وصفات الروم تملكني دهشة وعجب كبير؛ من دقة ورؤية عمرو بن العاص، وتخيلت مراكز الأبحاث والدراسات التي تقع اليوم غالباً في العالم الغربي، وتعنى بأحوال كثيرة جداً، منها: دراسة نفسيات الشعوب، والانطلاق منها في التعامل معها، فوجدت عمرو بن العاص رضي الله عنه قد أصاب كبد الحقيقة في هذه الأوصاف العامة الدقيقة لهذه الفئة؛ التي هي فئة الروم.وربما نعتبر امتداد الروم اليوم هو في العالم الغربي في أوروبا و أمريكا وغيرها، فتجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس. إذاً: هذا خبر نبوي وتأكيد صحيح، الكثرة هي ليست فقط كثرة عددية، وإنما الغالب أن الكثرة مربوطة بنوع من وجود نفوذ وقوة لهم، والعرب كثيراً ما تقول: "الكثرة تغلب الشجاعة"، نعم المسلمون يتميزون بالتضحية، والبسالة، والشجاعة؛ ولكن القوم الآخرون الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم يتميزون بالكثرة، وهذه الكثرة بقاؤها واستمرارها إلى قيام الساعة يومئ على أن يكون لهم قدر من السلطة، وقدر من النفوذ والاستقلال في مواقفهم وقراراتهم ودولهم ونظمهم، وهذا هو المشاهد اليوم.ثم إن عمرو بن العاص رضي الله عنه في إضاءته الدقيقة ربط هذه الظاهرة؛ التي هي ظاهرة بقاء الروم، وأنهم أكثر الناس إلى قيام الساعة، ربطها بأسباب، يعني: هذه الأمور القدرية التي تقع اليوم ليست أموراً اعتباطية، حاشا لله، وإنما القضاء والقدر يمضي وفق نواميس وسنن ركبها الله تبارك وتعالى في الكون؛ ولهذا مثلاً: العدل والإنصاف والصدق والعلم، هذه أشياء كبيرة مطلوبة، من تحلى بها ظفر، ومن تخلى عنها خسر، وقد تقع للمسلم فيكون له حظ وتوفيق، وقد يحرم منها المسلم فيحرم من الخير؛ ولهذا نقل ابن تيمية رحمه الله في كتابه: السياسة الشرعية عن جمع من أهل العلم أنهم يقولون: إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.إنني أعتقد أن المسلم تحق عليه السنة كما تحق على الأمم الأخرى، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ( إن الله عز وجل يقول: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً )، فإنني أظن أن هذا الحديث شامل في معناه؛ يشمل أولاً: التقرب إلى الله تعالى بالطاعات والتوبة من الذنوب، فكل من تاب وأناب وعزم في قلبه عزيمة صادقة على أن يقلع عن ذنب أو معصية ارتكبها، سواء كانت معصية أخلاقية سلوكية أو مالية، أو قولية أو فعلية، خاصة أو عامة، قاصرة أو متعدية، واستجمع إرادته، وعلم أنه سوف يلاقي الله سبحانه وتعالى، فتاب وأناب وصدق، فإن الله تعالى يكون إليه أسرع بقبول التوبة.. وبإعانته على طريقه الجديد.. وبأنه سبحانه يبدل سيئاته حسنات.. ويوفقه بمن يساعده على هذا الطريق من أهل أو زوج أو صديق أو ما أشبه ذلك، هذا من عون الله تعالى للعبد؛ لكن أيضاً من تقرب إلى الله تعالى بمحاولة اكتساب عوامل القوة التي يفتقر إليها المسلمون: تحصيل التقنية.. تحصيل الصناعة.. تحصيل العلم.. تحصيل الوحدة.. تحصيل الإدارة والنجاح في السياسة.. إلى غير ذلك من المقاصد والمصالح التي بناءً عليها يوفق وينجح الإنسان في دنياه، فإن الإنسان إذا اجتهد في هذه الأمور ربما نقول: إن المسلم الصادق قد يحصل فيها في يوم ما لم يحصله غيره في شهر؛ بشرط أن يوجد عنده عزيمة وصدق وإرادة، وأن يسلك الطريق السليم الصحيح المؤدي إلى تحصيل هذه الأشياء، لا يكتفي بمجرد التمنيات والأحلام والظنون، أو أن ينتظر أن تأتيه هذه على طبق من ذهب دون جهد ولا عمل، كلا، فنحن نلاحظ عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكيف يعقب على كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو يفسره بهذه الخصال الأربع، وخامستها الحسنة الجميلة التي بها أصبحوا أكثر الناس، وبها استحقوا هذا التمكين الذي كان لهم، ونطق به النبي صلى الله عليه وسلم، ونطقت به دلائل الواقع اليوم: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[فصلت:46]. شرح خصال الروم التي ذكرها عمرو بن العاص إنه ذكر هذه الخصال التي منها: أولاً: أحلم الناس عند فتنة (أحلم الناس عند فتنة)؛ يعني: الفتن كثيراً ما تطيش بعقول الناس، ويذهب لبهم، فالإنسان إذا كان في حالة غضب أو اندفاع أو انفعال أو تعاطف مع موقف معين، وهذا الموقف يشده، الكثير من الناس -وهذا نشهده كثيراً في إخواننا المسلمين- يفقد قدرته على التوازن، وعلى وضع الأمور في نصابها، وعلى محاولة دراسة الأشياء دراسة صحيحة، ويصبح عنده نوع من الاضطراب والارتباك في مواقفه.. في قراراته.. في تفكيره، هذا الارتباك ينعكس على أدائه في ميدان العمل والحياة، فوصفهم بأنهم (أحلم الناس عند فتنة)، فإذا جاءت الفتن كان عندهم فيها صبر وحلم وأناة وروية، ولا شك أن هذا إشارة إلى أن هذا خلق مطلوب، ينبغي أن يحرص المسلم على التحلي به.فهم (أحلم الناس عند فتنة). ثانياً: أسرعهم إفاقة بعد مصيبة (وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة). سواء كانت مصيبة خاصة أو مصيبة عامة، وأنا أرجح أن المقصود: المصيبة العامة وليست مصيبة بموت زوجة أو ولد أو ما أشبه ذلك، وإن كان هذا ربما يكون متضمناً؛ لكن المقصود وصف الشعب بأكمله. إذاً: هو يتعلق بمصائب عامة، يعني: فعلاً كيف تجد أن هؤلاء يخرجون مثلاً من أتون حرب ضروس ضارية شرسة أكلت الأخضر واليابس، وأتت على كل شيء، ثم مع ذلك يكون لديهم قدرة ونوع من الإفاقة السريعة، فسرعان ما يستدركون، وربما كانت أنظمتهم السياسية تساعد على مثل هذه الأشياء؛ فإن النظام لما يكون مبنياً على مؤسسات وعلى دراسات وعلى أجهزة مختلفة متنوعة يخضع للدراسة؛ ولذلك الخطأ لا يطول عندهم، هذا معنى قوله: (إفاقة بعد مصيبة)، لا يطول الخطأ؛ بل سرعان ما يتم استدراك هذا الخطأ وتصحيحه وتصويبه، ولعل ما نلاحظه مثلاً في انتخاباتهم.. وفي قراراتهم.. وفي استدراكهم للأخطاء التي حصلت من تدخلات في غير مكانها أو ما أشبه ذلك، يومئ إلى هذا المعنى أو يكون جزءاً منه. ثالثاً: أرحمهم بمسكين ويتيم وضعيف (وأرحمهم بمسكين ويتيم وضعيف). أيضاً هذه الروح الإنسانية التي جاء بها الإسلام، وهي جزء من الرحمة التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام كما سبق وأشرت، فهنا الرحمة للمسكين، والضعيف، واليتيم، النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( إني أحرج حق الضعيف، وحق اليتيم، وحق المرأة )، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم كان بخلقه العملي وسلوكه مع الضعفاء والمساكين والأيتام والأرامل وغيرهم، كان نموذجاً وقدوة، وجاءت شريعته أيضاً تؤكد على هذا المعنى، حتى: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أهل الحبشة -الذين هاجروا إلى الحبشة- سأل أحدهم وقال: ماذا رأيتم؟ ما هو أعجب شيء رأيتم؟ قال: والله أعجب ما رأيت، رأيت امرأة تحمل قربة على ظهرها، فجاء شاب.. )، شاب مراهق، مندفع، ( فضرب هذه المرأة، دفعها بقوة فسقطت وسقطت القربة، فقالت له هذه المرأة: سوف تعلم أيها الغادر! إذا قضى الله تعالى بين العباد ماذا يكون أمرك أو ماذا يكون جزاؤك؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت صدقت، لا بوركت أمة لا يؤخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً أن المجتمع الذي يملك الضعف والفقير والمسكين والكبير والصغير، والغريب أيضاً عن هذا المجتمع يملك أن يأخذ حقه، وأن يطالب بحقه بلغة فصيحة ليس فيها تعتعة ولا تردد ولا خوف ولا ضيق ولا انفعال، أن هذه المجتمعات خليقة بالبقاء؛ لأنها تحافظ على المعنى الإنساني الذي جعله الله تعالى ميزة: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ))[الإسراء:70]، فتحافظ على الإنسان، وبالتالي يكون الإنسان هنا فيها مرتاحاً، يشعر بالانتماء.. يشعر بالانضباط.. يشعر بأنه مستفيد من هذه المجتمعات؛ وبالتالي يكون جزءاً من المحافظة عليها، ويتربى في جو مطمئن آمن، بعيد عن الخوف، وبعيد عن القلق. رابعاً: أوشكهم كرة بعد فرة وأيضاً الصفة الرابعة قال: (أوشكهم كرة بعد فرة)، ويعني بها: أنهم إذا انهزموا سرعان ما يستردون قوتهم، ويكرون على عدوهم مرة أخرى. خامساً: أمنعهم من ظلم الملوك قال: (وخامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك)؛ يعني: أن عندهم امتناع، وقد لا يكون امتناعهم امتناعاً شخصياً، وإلا ربما نقول: إن العرب كانوا كذلك، العربي لما أراد ملك أن يأخذ فرسه قال: أبيت اللعن، وهذه تحية جاهلية عربية: أبيت اللعن إن سكاب علق نفيس لا يعار ولا يباع فلا تطمع أبيت اللعن فيها ومنعكها بشيء يستطاع وإنما المقصود أمنعهم -والله أعلم- أن الامتناع يتحقق من خلال جماعيتهم، فلديهم من الأعمال والمؤسسات والبرامج ما يجعل جهودهم متظافرة فيمتنعون من الظلم؛ وبالتالي يقوم عندهم من النظم والإدارات ما يحقق مصالحهم، ويحفظهم من الظلم ومن العدوان. فهنا تلاحظ عمرو بن العاص رضي الله عنه وكيف عرف وأدرك السر في هذا المعنى الذي جعله الله تعالى قضاءً وقدراً، أخبر وباح به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس.ويمكن للمسلم -بل يجب عليه- أن يلتقط من هذه المعاني والإيحاءات النبوية، وأيضاً من لمحات ولمسات الداهية العربي الكبير عمرو بن العاص معاني كثيرة جداً، ينبغي للمسلم أن يتمثلها ويدركها، وأن نسعى جميعاً إلى تحقيقها وإقامتها في مجتمعاتنا الإسلامية.هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.