الرئيسة ›برامج›من شرفة الحرم›من شرفة الحرم [6] من شرفة الحرم [6] الأحد 6 رمضان 1426هـ طباعة د. سلمان العودة 808 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص إرسال قريش عتبة بن ربيعة لمفاوضة رسول الله ... الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خاتم النبيين أسلوب عتبة بن ربيعة في مخاطبة رسول الله جاء محمد بن كعب القرظي رحمه الله، وحكى رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما ذكره ابن إسحاق و البيهقي وغيرهما، قال: ( إن قريشاً اجتمعوا في مكة ، وتحدثوا بما دخل عليهم من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الرجل الذي سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وشتم آباءنا، وأتانا بما لم نعرفه من قبل )، والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشتم آباءهم، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم، فهو عف اللسان، لكنهم اعتبروا أن مجرد الدعوة إلى دين التوحيد تسفيه لما كان عليه أولئك الآباء والأجداد من دين الوثنية والشرك، ( فقال رجل منهم وهو عتبة بن ربيعة : دعوني أذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأحادثه، وأتكلم معه، وأعرض عليه، فعسى أن يكون ثمة نفع، قالوا: اذهب، فذهب عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد! إني أريد أن أعرض عليك أموراً، وأنا رسول قومي إليك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد قال: يا محمد! إن كان ما أتيتنا به من هذا الدين بسبب أنك تريد ملكاً ومالاً وسلطاناً علينا فإننا نملكك، ونعقد لك الأمر في هذا، وإن كنت تريد المال والتجارة فإننا نجمع لك حتى تكون أغنانا مالاً، وإن كنت تريد زوجة لأنك أعزب أو عندك زوجة واحدة لا تكفيك زوجناك، حتى تكون أشهر الناس في هذا، وإن كنت تريد أمراً أعطيناك، وإن كان الذي أصابك نوع من الجن -الجنون- عالجناك )، وظل عتبة بن ربيعة يشرح للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الهراء ويقول له بلغة المتعالم الذي يعلم غيره، قال له: ( فإنه ربما غلب التابع على الإنسان حتى يداوى منه)، يقول: إنه ربما ما يزعمه أن هناك جني يتبع الإنسان فإن هذا الجني التابع ربما يغلب على الإنسان، ويسيطر عليه وعلى حواسه، وعلى أفكاره، وعلى عقله حتى يحتاج إلى العلاج منه، فإذا أنت مصاب بمثل هذا فإننا نعالجك، وهو يتكلم بهذه اللغة مع من؟ يعني هب أن هذا العرض عليك أنت شخصياً، كم كنت تنقد وتزدري هذا الإنسان الذي يتحدث فيتهمك في نيتك أنك تقصد الدنيا مثلاً، أو تقصد المال، أو تقصد الشهرة، أو تقصد الزوجة، أو تقصد الوظيفة، أو تقصد الرئاسة، ولم تتذرع إليها بوسائلها الطبيعية، وأسبابها المعروفة التي يستخدمها الناس، وإنما حاولت أن تتذرع إليها بمعنىً ديني من خلال الدعوة إلى الله، من خلال الدعوة إلى مكارم الأخلاق، من خلال هذه القيم التي تشهرها وتنشرها، هنا لو أن أحداً منا عرض عليه مثل هذا المعنى لكان يغضب، ومن حقه أن يغضب، ويرفض، بل لم يكن يسمح لمثل هذا الرجل أن يستتم حديثه، بينما نلحظ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف تعامل مع مثل هذا الموقف. أسلوب رسول الله في الرد على عتبة بن ربيعة فكان صلى الله عليه وسلم منصفاً طيلة هذا الحديث الذي قد يكون استغرق ساعة، أو ربما ساعتين، نعم نحن نختصره الآن في أسطر معدودة، وهكذا أصحاب السير، لكن الحديث قد يكون طال، وقد يكون فيه ذيول وتفاصيل وقصص وأخبار طيلة هذا الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم مطأطئ الرأس، ساكت يستمع بغاية الاهتمام لما يقوله هذا الرجل، ( بعد ذلك رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الرجل وقال له: أوقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال: نعم )، فهنا تلاحظ السؤال النبوي، الأدب العظيم، لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم على الحديث بمجرد ما وجد أن الرجل قد سكت، وهو بالتأكيد سكت انتهى ما عنده، وإنما وجه إليه سؤالاً حتى يطمئن إلى أن كل ما عنده قد نزل، ( أوقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال: نعم ). ثم انظر كيف خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الجميل، وكناه (يا أبا الوليد)، ولا شك أن مناداة الإنسان بكنيته فيها دائماً معنى جميلاً، وفيها نوع من التحبب والتقرب، وفيها إشعار بالرضا، وعدم الغضب، وعدم الانفعال، فيخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بكنيته، ( قال: نعم، قال: فاسمع مني، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن الكريم صدر سورة فصلت إلى قوله تعالى: (( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ))[فصلت:13-14].. إلى آخر الآيات، فقام الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده على فمه وهو يقول: يا محمد! يا محمد! ناشدتك الله والرحم إلا تسكت)، وقد أصابه نوع من الهلع والفزع لمجرد سماعه آيات مجلجلة مزلزلة قوية تهددهم، وانصرف الرجل وكأن صوت الصواعق في أذنيه: (( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ))[فصلت:13]. عودة عتبة بن ربيعة إلى قومه بعد المفاوضة انصرف الرجل وكأنه يسمع صوت الصواعق تجلجل في أذنيه، وقام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يناشده بالله والرحم أن يسكت، ويضع يده في فم النبي عليه الصلاة والسلام، ( وذهب إلى قومه، أقبل عليهم، فقالوا: نقسم بالله لقد جاءكم عتبة بغير الوجه الذي ذهب به )، لقد قرءوا التغير في ملامحه وقسماته، كان يأتي متثاقل الخطى، مهدوداً، متأثراً بما سمع، ( فلما جاءهم قال لهم: أطيعوني، واجعلوها بي، دعوا محمداً صلى الله عليه وسلم وشأنه، فإن يظهر على العرب فعزه عزكم، ونصره نصركم، وأنتم أسعد الناس به، وإن يظهر العرب عليه كفيتموه بغيركم )، يعني كأنه يدعوهم إلى نوع من الحياد، اتركوا محمداً وشأنه ودعوته، فإن قبله العرب وآمنوا به فدعوته عز لقريش، وهكذا هو كما قال الله سبحانه وتعالى: (( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ))[الزخرف:44]، وإن ظهر العرب عليه وقاتلوه وانتصروا عليه فأيضاً كفيتم دعوته بغيركم، ولم تحتاجوا إلى إقامة وإدارة معركة شخصية في داخل قريش بينكم وبين محمد عليه الصلاة والسلام. الدروس المستفادة من مفاوضة عتبة بن ربيعة لرسول الله هذا الموقف العظيم، أيضاً فيه العديد من الدروس والعبر.. الإنصات والاستماع للمتحدث دون مقاطعة ...وأهم وأعظم درس يمكن أن نتلقاه، هو قضية الحوار، وأدب الحوار، وأدب الحديث، يعني كون النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى هذا الرجل حتى ينتهي هذا معنى مهم، ألا تقاطع المتحدث، مهما يكون كلامه في نظرك كلاماً رديئاً، كلاماً غير سليم، غير صحيح، الانتصار ليس بالصراخ، ولا بالضجيج، ولا بالجلبة، ولا باستخدام عبارات لها قعقعة، ولها قوة، ولها شدة، مثل ما يظنه الكثير من الناس، ولو كان الانتصار بالحجة بمثل هذا الأسلوب من رفع الصوت أو الصراخ، أو استخدام عبارات رنانة لكان الجهلة والأغبياء وأمثالهم أولى بالنصر والفلج في الخصومات، بينما الواقع والتاريخ يشهد بأن الانتصار في الخصومة يكون بالحجة، يكون بالقوة، يكون بالمنطق، يكون بالعقل.فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا ترك الرجل حتى تحدث ولم يرد عليه، لم يقل له: إنما جئت به سفه، ولو قال لصدق عليه الصلاة والسلام، ولم يقل: إن ما تمارسه الآن هو الكفر الصراح البواح، ولو قالها لكان راشداً باراً صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه استمع إليه ثم تركه وقدم له صلى الله عليه وسلم الدعوة التي عنده، واكتفى بأن يقرأ عليه شيئاً من القرآن، حتى لم يضف إليها صلى الله عليه وسلم من عند نفسه شيئاً، وهنا نجد أننا أمام منهج قرآني نبوي عظيم، يعني الله سبحانه وتعالى لما يقول مثلاً: (( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ))[سبأ:24-25]، يعني: ما أجرمنا لا تسألون عنه، فالجريمة التي يفعلها المسلم مثلاً لا يمكن أن يسأل عنها الكافر، كل أحد يؤخذ بذنبه. (( وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ))[سبأ:25]، فسمى الأمر الصادر منهم عملاً، لم يسمه جريمة، وهذا ما يسميه الفقهاء والعلماء والمناطقة: التنزل للخصم. فمثل هذا الأسلوب في الحوار والأخذ والعطاء والرد هو الأسلوب الرباني، هو الأسلوب النبوي. ضرورة شيوع أدب الحوار في سائر حياتنا إن بمثل هذا الأسلوب العظيم الذي يعتمد على آلية جيدة في الخطاب على مراعاة الأدب فيمن تتحدث معه، وعدم المعاجلة، وعدم المقاطعة، هذا أسلوب ضروري جداً أن يكون شائعاً في ثقافتنا، في مجالسنا، في إعلامنا، نحن نشهد اليوم ثورة إعلامية، والعديد العديد من البرامج المتحدثة عن الحوار، وعن الجدل، وعن الآراء المصطرعة، وعن الأطراف المختلفة، نشهد ألواناً من الحراك السياسي أحياناً والفكري والثقافي، والتي كل اتجاه له ما يمثله، وهؤلاء يحاولون أن يقدموا أنفسهم للناس، طيب لماذا تكون آلية هؤلاء كثيراً في حواراتهم هي آلية الهجوم على الأطراف الأخرى هي آلية التشفي؟ هي آلية أينا أرفع صوتاً، أينا أقدر على الحديث، أينا أكثر جلبة في الكلام، هذا الأسلوب يولد عند الناس كثيراً من تعكر المزاج، وفساد الفطرة، وبدون شك الناس قد يتفرجون على مثل هذه المعارك التي تحصل أحياناً وكأنما يتفرجون على صراعات بين ديكة، أو بين وحوش في غابة، وقد يرون أن هذا انتصر وهذا انتصر، لكن ما هي المقاييس الحقيقية للنصر؟ وأي لون من الحوار ينبغي للإنسان أن يدخل فيه؟ إنني أعتقد أن من الحكمة أن يكون دخول الإنسان في الحوار مبنياً على نوع هذا الحوار، وعلى موضوعه بحيث أن يكون موضوعه موضوعاً واقعياً علمياً صحيحاً له ما يدعوه، وأن يكون المجال الذي يتم فيه هذا الحوار أيضاً مجالاً هادئاً، لا يعتمد على الصخب والضجيج والصياح والصراخ ورفع الأصوات بقدر ما يعتمد على الحجة، وعلى هدف هذا الحوار، بحيث أن يكون الهدف هو إظهار الحق. أقوال الإمام الشافعي وآراؤه في الحوار والمجادلة ولذلك كثيراً ما يعجبني ذكر مواقف جليلة وعظيمة للإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، والذي أعتبره من حكماء الإسلام، مثلاً كان رضي الله عنه يقول: [ ما ناظرت عالماً إلا خصمته، ولا ناظرت جاهلاً إلا خصمني]؛ لأن الجاهل ليست حجته بالقوة والحكمة والمنطق، وإنما بالصخب ورفع الصوت، وأحياناً الاستشهاد بالأشياء في غير موضعها، هذه من كلماته.أيضاً من كلماته رضي الله عنه أنه كان يقول: [ ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله تعالى الحق على لسانه ]. بمعنى: أنه ليس المقصود من الحوار والمناظرة هو أن تغلب هذا الخصم أو تفلجه، أو تظهر فشله أمام الناس، أو تحطمه، أو تدمر شخصيته، وإنما المقصود هو الوصول إلى الحق من أقرب طريق. وهكذا أيضاً كان رضي الله عنه يقول فيما رواه عنه الصدفي وغيره: [ يا أبا فلان! ألا يمكن أن نكون إخوة حتى لو لم نتفق في مسألة؟] يعني: أن الاختلاف في الرأي لا يعني الاختلاف في القلوب، بل ينبغي أن تكون القلوب صافية ومتآخية، حتى وإن وقع شيء من الاختلاف. ومن الكلمات المشهورة عنه والتي سارت مسير الشمس في شهرتها، أنه كان يقول رضي الله عنه: [ قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب]، من يقول هذا منا؟ حتى غير المتعلمين وغير المثقفين وغير الفقهاء لا يقولون مثل هذا الكلام، أن رأيي صواب يحتمل الخطأ، نحن اليوم حتى في أشياء لسنا متأكدين منها، وربما كانت من الخطأ، بل قد تكون من الخطأ الذي لا يحتمل الصواب أحياناً، ومع ذلك قد يقول القائل منا: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب، وربما لو أنصف لقال: قولي خطأ يحتمل الصواب، وقول غيري صواب يحتمل الخطأ. التحلي بروح الأدب عند دخول ميدان الحوار إن مثل هذه الروح التي تجعل الإنسان قد يدخل ميداناً للحوار ليس بلغة الإنسان الذي يعتقد أنه يملك الحق المطلق، وكأنما معه ملك من السماء يسدده، وإنما هذا أمر بدا لي وظهر لي، نحن هنا لا نتكلم عن قطعيات، عن ضروريات، عن مسلمات لا خلاف عليها، فهذه الأصل أنه ليست مجالاً للحوار، سواءً كانت من قطعيات الدين وضرورياته، أو من قطعيات الواقع ومعروفاته، وإنما يتكلم عن الأشياء التي يتأتى أن يكون فيها حوار واختلاف.