ÇáÑÆíÓÉ المقالات1429 هـالميلاد اليومي!

الميلاد اليومي!

في القرآن الكريم يصف ربنا نفسه بأنه: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))[الرحمن:29]، وقد أطبقت كلمة المفسرين على معنى الآية، وأنه تعالى من شأنه كل يوم أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين؛ كما قال أبو الدرداء.
أو يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويغل ويفك، ويفعل ما يشاء؛ كما قال ابن عباس.
أو يربي صغيراً ويفك أسيراً، ويغني فقيراً، وهو مرد حاجات الصالحين، ومنتهى شكرهم وصريخهم؛ كما قال قتادة.
أو يعتق رقاباً، ويفحم عتاباً، ويعطي رغاباً، كما قال سويد بن جبلة.
وقال أبو الجوزاء: لا يشغله شأن عن شأن.
والإطباق على هذا المعنى يدل على أنه كل يوم في شأن مع خلقه، في تبديل الأحوال وتغييرها، ونقلهم من الضعف إلى القوة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العدم إلى الوجود، وأضداد ذلك مما تقتضيه حكمته،(( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))[آل عمران:26].
ولذا بدأ الآية بقوله: (( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))[الرحمن:29] يعني: الإنس والجن والملائكة وكل المخلوقات، وفي هذا حفاوة بالدعاء والسؤال والتعرض لنفحات ذي الجلال، فإنها مظنة أن تجعل التبديل والتغيير نحو الأفضل، فإذا سألوه وألحوا في سؤالهم، كان من شأنه أن يجيب سائلهم، ويغير أحوالهم من الهوان والتخلف والجهل والمرض والفرقة والضياع إلى الرفعة والمجد والعلم والعافية والاتحاد.
وهذه مناسبة اتصال أول الآية بآخرها، والله أعلم.
وهو سبحانه لا يحول ولا يزول ولا يتبدل ولا يطرأ عليه ما يطرأ على خلقه، وإنما شأنه المذكور هو في عباده ومخلوقاته، فهذا شأن الألوهية.
أما شأن العبودية فيصوره قوله تعالى: ((فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ))[الانشقاق:16-19]. فأقسم بهذه المخلوقات ومراحلها وتقلبها وأحوالها المتعاقبة على المعنى المراد؛ (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ))[الانشقاق:19] أي: حالاً بعد حال، أو أمراً بعد أمر، كما قال عمر رضي الله عنه، وفي رواية عن مكحول في تفسير الآية: في كل عشرين عاماً تحدثون أمراً لم تكونوا عليه، وعن قتادة: هو التردد بين البلاء والرخاء.
وهي إشارة إلى التحول في التكوين الإنساني، والحياة البشرية، ويتضمن الترقي في مدارج العمر من الطفولة إلى الهرم، وأحوال الحياة والمعرفة والعلاقة،(( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ))[النحل:78]. هي سنة إلهية أن الإنسان يترقى، وحين تتأمل تعبير الركوب، وتعبير الطبق، فهو يرشح لمعنى السمو والصعود أكثر من غيره.
وهذا الركوب منه قدر فطري قدري إلهي، تجري به السنة ويحتمه مرور الأيام والليالي.
ومنه قدر اختياري كسبي، يحصل عليه الإنسان بجهده وكده وعمله وتفكيره.
والسياق يعطي للمؤمن رغبة في التطوير والترقي، وعدم الإخلاد للحال التي هو عليها، سواءً حاله الفردية، أو حال الجماعة والأسرة والمجتمع والدولة.
إنها دعوة إلى التغيير، والتغيير الإيجابي الفاضل، وتأكيد إلهي على أن بقاء الحال من المحال، وأن الانتقال من وضع إلى آخر هو سنة الله في عبادته، وتاريخهم كله شاهد على هذا.
الكون يتغير، والنجوم تتألق ثم تأفل، والقمر يتسق ثم يتضاعف ثم يغيب، والليل يعقبه نهار، والشمس تشرق ثم تأفل، فلماذا تعتقد أيها الإنسان، أيها المؤمن أنك مطالب بالمكث حيث أنت، وكأنك أبو الهول، تمر عليك الليالي والأيام وأنت جاث جاثم لا تتحرك ولا تلتفت ولا تؤثر، ولا تتأثر..
أصخرة أنا ما لي لا تحركني            هذي المدام ولا هذي الأغاريد؟
وحتى أبو الهول .. أتظنه سرمداً لا يحول ولا يزول؟ هيهات؛ وقد حالت أحوال، ودالت دول، ومضت قرون، وأعصار، وأمصار، فما شأنك أنت؟ وإلى متى أنت غارق في صغائرك؟ قابع في زواياك؟ قانع باليسير التافه وقد أخذ الناس أخذاتهم ونزلوا منازلهم؟!
هذه فرص العمل والإنجاز تتبرج وتستفز وتقول: هيت لك، وأنت تقول: معاذ الله!
وما دعتك إلا إلى عمل رشيد فيه قوام الدين وصلاح الدنيا، فإلى متى التباطؤ والكسل والإخلاد؟! وإلام الاستغراق وقد نادى المنادي: (( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ))[المدثر:1]، (( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ))[المزمل:1].
وحين قارنت نفسك بسواك؛ فهلا جعلت المقارنة مع المجددين والمبدعين والمؤثرين، وليس مع الكسالى والمعزولين!
لئن جلس الغني على الحشايا             لأنت على الكواكب قد جلستا
ومهما افتض أبكار الغواني            فكم بكر من الحكم افتضضتا
ولقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن آية الانشقاق خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيركب طبقاً بعد طبق، وقرءوها بفتح الباء (لَتَرْكَبَنَّ) أي: يا محمد، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم برفعة أمره، وكثرة أنصاره وأتباعه وإعزاز دينه، وغنى أمته، وقيادتها للركب الإنساني ردحاً من الزمن، فضلاً عما وعده به ربه سبحانه من المعراج إلى السماوات ورؤية الأنبياء، وتكريس الوراثة الربانية له ولأتباعه.
وكان صلى الله عليه وسلم كل يوم يزداد قرباً من ربه، ومعرفة به، وسمواً في معارجه ومدارجه، حتى قال له ربه: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))[الحجر:99]. فقبضه وهو في أتم حالاته عليه السلام، وكان يقول: ( في الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى ).
وكان الشافعي يقول: [ إذا مضى يوم لم أزدد فيه علماً؛ فلا بورك لي في ذلك اليوم ].
إذا مضى يوم ولم أكتسب يدا            ولم أصطنع مجداً فما ذاك من عمري
والأمر لا يتعلق بمعلومات إضافية يصفها المرء في خزانة عقله، بل بالمعرفة الإيجابية المنعكسة على الفهم والتجربة والشخصية والسلوك والتفكير، ليبدو الإنسان كل يوم وكأنه كائن جديد، يتألق ويحلق ويضيف ويطور ويصحح ويراجع بصبر ودأب، إذا لم تكن لك غاية إلا الحفاظ على انطباع جلسائك وأصدقائك عنك؛ فأنت في أزمة تعصف بمستقبلك، وترهنك لما لا ينفعك ولا يضرك.
ولله! ما أجمل تعبير العقاد حين يقول:
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا            وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
و ما أكثر من يُلحَدون (بضم الياء وفتح الحاء) في قبورهم كل ساعة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!