ÇáÑÆíÓÉ ›دروس›إشراقات قرآنية›جزء الأحقاف›سورة الأحقاف سورة الأحقاف الخميس 2 جمادى الأولى 1437هـ طباعة د. سلمان العودة 19305 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص مقدمة في سورة الأحقاف أهمية تدبر القرآن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، السلام عليكم أيها الأحبة في جدة ورحمة الله وبركاته.وكم أنا سعيد بهذه الجلسة التي تجمعني بوجوهكم الطيبة، وأرواحكم المتألقة، وعواطفكم النبيلة، وفي الوقت ذاته جلسة في بيت من بيوت الله، وفوق هذا هي جلسة لتدارس بعض معاني القرآن الكريم، وفي هذا القرآن إعجاز، حقيقةً كلما قرأت سورة من السور وراجعتها في كتب التفسير؛ وجدت أن المعاني تنهال علي، ولكني أوثر دائماً أن تبقى طليقة لا أحب أن أكتبها، فأقول: يكفي ما أاستذكر منها، وفي الخير، وما يفوت أيضاً في الخير، ففي هذا القرآن إذا تدبره الإنسان وتأمله معاني وإشراقات جليلة وعظيمة؛ ولذلك فهو سر المعرفة، وسر الخلود، وسر البقاء، وسر النجاح، وسر التوفيق، قبل أسبوع كنت أشاهد مقطعاً لبروفسورة يهودية في اليوتيوب تتكلم باللغة الإنجليزية في جامعة عن القرآن الكريم، حقيقةً شعرت بقشعريرة البدن كيف أن أناساً بعيدين يقولون مثل هذا الكلام عن القرآن الكريم، بينما الكثير من المسلمين والعرب الذين ينطقون باللغة العربية قد لا يدركون هذه الأسرار، هي تتكلم عن أسرار القرآن الكريم، وأن القرآن ليس كتاباً ليؤخذ ليقرأ في نهاية الأسبوع في الإجازة والإنسان متعب أو مسترخٍ، وإنما هو كتاب للحياة، وتتكلم عن جوانب من بدائعه وإشراقاته، وكما يقال: والضد يظهر حسنه الضد والعدل ما شهدت به الأعداء الحروف المقطعة التي في أوائل السور قبلما أبدأ بهذه السورة الكريمة سنفسر إن شاء الله خلال هذا الأسبوع الجزء السادس والعشرين ويسمى جزء الأحقاف، في كل ليلة سنأخذ سورة، الأحقاف، الفتح، محمد، الحجرات، ق.سؤال سريع وخاصةً لأبنائي الصغار، لغز: كلمة تكتب بحرفين وتنطق بخمسة حروف ما هي؟ مداخلة: يس.الشيخ: يس، وكذلك حم، وهي محل الشاهد، فإنها تكتب (ح) و (م) فقط حرفين، ولكنها تنطق بخمسة حروف (حم)، وهذه مجموعة من سور القرآن الكريم يسميها ابن مسعود (آل حم) رضي الله عنه، يعني: مجموعة متكاملة من السور تبدأ بسورة غافر وتنتهي بالأحقاف، مثل المسبحات أيضاً هي مجموعة أخرى من خمس سور من القرآن الكريم تعرف بالمسبحات، تبدأ بسورة الحديد وما يتلوها من السور، وكذلك هناك السبع الطوال وهي السور الطويلة في أول القرآن، فهناك مجاميع داخل القرآن الكريم سور لها طابع خاص، ومتقاربة ومتجانسة وتدور حول ذات المعاني، وأحياناً تستفتح بذات الاستفتاحات، مثل هنا تستفتح جميع السور بكلمة (حم)، وهذا إعجاز في جانب الاختصار، التعبير بالحرف، اليوم نحن في عصر الإعجاز بالإيجاز كما يقولون، لما تنظر إلى كثير من أدوات التواصل الاجتماعي اليوم في الفيس بوك وتويتر وغيرها من الأدوات تجدها تعتمد على عدد قليل من الحروف لتوصيل معلومة أو خبر، فتربي الإنسان على الاختصار، وعلى أهمية الحرف، أنه كل حرف له أهمية، ويمكن أن يغني عما سواه، فهذا إلهام توحي به هذه الفواتح للسور التي تستفتح بها. وفي القرآن الكريم تسع وعشرون سورة مستفتحة بالحروف المقطعة، أحياناً حرف واحد مثل: (ق)، (ن)، (ص)، وأحياناً حرفين مثل: (يس)، (حم)، وأحياناً ثلاثة حروف مثل (ألم)، وأحياناً أربعة حروف مثل (المص)، وأحياناً كم؟ خمسة حروف مثل (كهيعص) خمسة حروف، والغريب أنه في اللغة العربية الكلمة تبدأ بحرف واحد على الأقل نطقاً وتنتهي بخمسة حروف، يعني: أطول كلمة في اللغة العربية هي خمسة حروف، دعك من العلامة أسماء الناس وأسماء البقاع؛ لكن الكلمات المشتقة هي خمسة حروف فقط، قد تكون الكلمة حرفاً واحداً مثل (عِ)، هي أكثر من حرف لكن الذي تسمعه حرفاً واحداً (عِ)، يعني: كن واعياً، خليك واعياً، أو (قِ) يعني: أوقي الشيء توقيه من شيء، وقد تكون أكثر من ذلك، فهكذا هذه السور التسع والعشرون مفتتحة بالحروف أو الرموز المقطعة في أوائلها، والعلماء تكلموا كلاماً طويلاً وكثيراً حولها، وكله خير، وكله مبارك، يعني: من أشهر بل أشهر الأقوال، والذي نقل عن ابن عباس وجماعة من الصحابة واختاره أكثر المفسرين قالوا: إن هذه الحروف المقطعة هي إشارة؛ إلى أن القرآن الكريم مكون ومركب من مثل هذه الحروف، ومع أن الناس ينطقون بها إلا أن الله تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فكأنه يقول: إن المادة الخام التي يتكون منها القرآن الكريم وهي الحروف متاحة لكم وموجودة عندكم، وأنتم تستخدمونها في مخاطباتكم وأحاديثكم، ومع ذلك الله تحداكم تحدى العرب الفصحاء أن يأتوا بسورة أو بآية أو بحديث مثله، فهذا من لطيف المعاني، ومما يعزز هذا المعنى أنه لا تكاد تأتي سورة فيها هذه الحروف المقطعة إلا ويأتي بعدها مباشرةً الكلام عن القرآن الكريم، كما تجد هنا مثلاً (( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ))[الزمر:1]، في سورة البقرة (( أَلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ))[البقرة:1-2]، (( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ))[ص:1]، (( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ))[ق:1]، (( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ))[القلم:1]، هنا ليس صريحاً في القرآن، ولكن هذا هو المعنى؛ لأن أعظم ما يكتب ويسطر ويقرأ هو القرآن الكريم.وبعضهم قالوا: إن هذه الحروف غير معلومة المعنى، وإنما الله أعلم بمراده منها، ونحن نقول: أكيد الله أعلم بمراده منها، ولكن لا يمكن أن يكون شيء في القرآن غير معقول المعنى والله أعلم، أننا نتعبد بشيء لا نفهمه، لا بد أن يكون هناك سر وإعجاز وراء هذه الحروف؛ ولذلك بعضهم ذهب إلى أن هذه الحروف ربما تكون فيها رموز وإشارات لأعمار وأزمنة الأمم والدول، وهذا بعيد؛ لأنه أيضاً القرآن ليس كتاباً في الهندسة، ولا كتاباً في التاريخ، وليس طلاسم، هذه من إعجاز القرآن أن العالم المتخصص يجد فيه بغيته، والقارئ البسيط يجد فيه بغيته أيضاً، فليس القرآن حكراً على فئة معينة من الناس، (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ))[القمر:17].ومن المعاني التي خطرت في البال أن هذه الأسماء قد تكون مرتبطة بالسور التي جاءت بها، وهذا يحتاج إلى بحث، حاولت أن أبحث ولكني لم أصل إلى شيء، بمعنى إنك لما تنظر سورة (حم) حاول تبحث عن هذين الحرفين في بقية السورة، هل مثلاً هما أكثر من غيرهما، أم هما مثل غيرهما؟ وبعضهم قال: إن هذه أسماء للسورة، هذه سورة (حم) (عسق)، هذه سورة (حم) الجاثية، هذه سورة (حم) الأحقاف، وبعضهم قالوا: إنها أسماء لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك بعضهم يقول: (حم)، النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب قال لأصحابه: ( إذا هاجموكم أو حاصروكم فقولوا: حم؛ لا ينصرون )، فكان الصحابة يقولون هذه الكلمة كرمز سري ما بينهم في حالة الحرب، يعني: يتعارف بها المسلمون في الظلام، أو إذا اختلطت الأمور ولم يعودوا يتعارفون، وأيضاً ورد في قصة معركة الجمل؛ في الرجل الذي قتل طلحة رضي الله عنه يقول بعدما قتله، كان طلحة يذكره بالله، فيقول القاتل: وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما يرى الناس مسلم شككت إليه بالرماح قميصه فخر صريحاً لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يذمم يذكرني (حم) والرمح شاجر فهلا تلا (حم) قبل التقدم لماذا لم يذكرني بها قبل أن أتقدم وأبدأ في عملية الشروع في عملية القتل؛ لأن هنا النفس قد غضبت واندفعت وربما يكون الرجوع صعباً، على أي حال (حم) يحتمل أن تكون هذا أو هذا، ونقل عن ابن عباس : [ أن حم أو ما شابهها هي إشارة إلى أسماء لله ]، يعني: مثلاً الحاء من الحكيم، الميم من المعز مثلاً أو هكذا، يعني أنها تعبر عن بدايات لأسماء لله سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً فيه نظر وفيه بعد.ومن الطريف أن الزمخشري صاحب الكشاف جمع هذه الحروف هي تقريباً أربعة عشر حرفاً، بمعنى أنها نصف الحروف الهجائية، موجودة في طلائع السور، وهي الحروف المهمة أيضاً في الغالب، يعني: الحروف الأساسية الجوهرية موجودة في هذه المجموعة، وكوَّن منها كلمة ربما فاتت علي الآن الكلمة لكنها كلمة عجيبة؛ تدل على أنه هذا كلام ذو سر أو نحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى افتتح هذه السور بقوله: (( حم ))[الأحقاف:1]، ولا شك أن هذه الافتتاحية فيها نوع من الهيبة، وأحياناً الغموض يمنح الإنسان شيئاً من الهيبة، خاصةً إذا كان الكلام الذي فيه هذا العموم هو من الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن هنا يتلقاه ويتعبد بقراءته وله أجر؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المثل في الأجر بـ (ألم) قال: ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، انظر كيف انتقى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المثال بالذات لماذا مثل بـ (ألم)؟ لأنه قد يظن إنسان أن هذه كلمات لا يفهم معناها كيف نتعبد بها؟! فبين لك أنه أنت لما تقرأها ككلام الله سبحانه وتعالى على أنها من كلام الله، وهي مقدمة لما بين يديها، وهي تجعل الإنسان يسبح في مجموعة من الاحتمالات، ومجموعة من التفسيرات، ومجموعة من الحلول، فهذا فيه عبودية لله سبحانه وتعالى.(( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ))[الأحقاف:2]، يعني: هذا تنزيل الكتاب، واختار لفظ (العزيز الحكيم)؛ لأن القرآن الكريم هو كذلك (( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ))[فصلت:41]، فالقرآن كتاب عزيز، وعزة القرآن تعني أنه يرتفع على الشبهات، وعلى الظنون، وعلى التوهمات، فهذه عزته.وأيضاً القرآن كتاب حكيم، (( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ))[يس:1-2]، فهو كتاب حكيم، ممتلئ بالحكمة، ليس فقط حكمة التجربة البشرية التي قد تجدها عند الناس، ولكن حكمة العلم الإلهي الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها. بيان هل سورة الأحقاف مكية أو مدنية (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ))[الأحقاف:3].هنا الله سبحانه وتعالى تكلم عن خلق السموات والأرض، ودخل في مناظرة مع المشركين؛ لأن السورة مكية، سورة الأحقاف مكية نزلت بمكة بإجماع المفسرين كما ذكره القرطبي و الطبري وغيرهم، ولكن قال بعضهم: أن فيها آيات مدنية مثل قوله تعالى: (( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ))[الأحقاف:10]، فقال بعضهم: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم.وكذلك (( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ))[الأحقاف:17]، قال بعضهم: إنها مدنية، وآخر آية من السورة: (( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ))[الأحقاف:35]، قيل: هي مدنية، ولكن الأرجح والذي نتعامل معه أن السورة كلها نزلت بـمكة وإن كان لا يمنع أن تنزل آية بـالمدينة، ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تلحق بموضعها في سورة نزلت بـمكة .إذاً السورة مكية. اسمها وعدد آياتها وهذا الاسم لها -اسم الأحقاف- هو الاسم الوحيد، يعني: ليس لها اسم آخر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وقال ابن عباس : [ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف ]، وهي يسميها سورة الثلاثين، وهذا ليس خاصاً بها؛ لأن عدد آياتها أربع وثلاثون أو خمس وثلاثون على حسب اختلاف علماء العد، وإنما كانوا يقولون: الثلاثون إذا كانت في حدود الثلاثين أو تزيد قليلاً سموها سورة الثلاثين يعني: الثلاثين آية. موضوع سورة الأحقاف فهنا الله سبحانه وتعالى بدأ في مناظرة مع المشركين، وتقريباً المناظرة في هذه السورة تتمحور حول ثلاثة موضوعات رئيسية: الموضوع الأول: الألوهية، الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق الرازق المحيي المميت، الذي يستحق أن يعبد، وهذا هو المعنى الذي تدور عليه الرسالات، هذا أولاً.المعنى الثاني أو المحور الثاني: النبوة، وهو الإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يكن خلق هذا الكون ثم وضع نواميس وتركه وأهمله، حاشاه، وإنما خلق هذا الكون وسيره ونظمه وأرسل الرسل للبشر؛ ليبشروهم وينذروهم.والمعنى الثالث: هو المعاد والبعث، وهو من أعظم العقائد التي جاء بها الرسل وجاءت بها الكتب السماوية أن بعد هذه الحياة حياة أخرى.فإذا تأملت هذه المعاني الثلاثة أو المحاور الثلاثة: الألوهية، النبوة، والثالث ما هو؟ مداخلة: البعث.الشيخ: البعث والمعاد، وجدت أن هذه هي الأسس والأركان الثلاثة الأساسية والجوهرية للإيمان، فإذا آمن الإنسان بها واستقر إيمانه؛ أصبح ما بعدها عنده سهلاً ميسوراً، واستقامت أموره وانضبطت حتى مشاعره وتصرفاته في هذه الحياة. إشراقات في قوله تعالى: (ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون) ومن هنا قال: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))[الأحقاف:3]، إذاً: الخلق هنا ليس عبثاً ولا لعباً، وإنما خلقها الله تعالى بالحق. معنى كلمة (بالحق) في قوله تعالى: (ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ..) وكلمة (بالحق) هنا تحتمل أكثر من معنى: المعنى الأول: أن الله تعالى خلقها من أجل الحق، بمعنى أن الله تعالى خلق السموات والأرض من أجل الناس، من أجل الإنسان ليبتلى الإنسان، ويحاسب، ويسأل، ومن أجل أن تقوم الآخرة والقيامة، ويدخل أحد الجنة، ويدخل أحد النار بحسب أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فهذا من معاني الحق الذي خلقت به السموات والأرض.المعنى الثاني: أن الله تعالى خلق السموات والأرض بالحق، يعني: وضع لها نواميس وسنناً منضبطة متقنة ليست عبثاً، فهناك انضباط مثلما الشمس تطلع وتغيب والقمر والنجوم في مداراتها والأفلاك، والسماء والأرض، وحتى جسد الإنسان هناك انضباط ومهمات أشياء في بيلوجية الإنسان في أعضائه، وأشياء في عقله، وأشياء في روحه، وأشياء في نفسه، مثلما كل هذه الأشياء منضبطة الله سبحانه وتعالى بين أن هذا جزء من الحق، أن الناموس هذا ما يظلم.على سبيل المثال من فروع هذه القصة، بل من دلالاتها أنه إذا الإنسان عمل خيراً أياً كان فإن الله تعالى يأجره، حتى لو كان من دون أن يكون عنده نسب ولا حسب، ولا تاريخ، ولا أسرة ولا شيء، إذا استقام الله سبحانه وتعالى يعطيه ما له، (( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ))[النجم:39].من مفردات هذه المسألة أيضاً: أن الإنسان الكافر إذا عمل وأخلص في الدنيا نجح، حصل على المال، حصل على العلم، حصل على التقنية، حصل على الثروة، حصل على التقدم العلمي والمادي كما تلاحظونه الآن، وبالمقابل أن الإنسان المسلم إذا فرط وقصر فإنه لا ينفعه مجرد الانتماء والانتساب، وإنما لا بد أن يكون الإنسان يعمل، فهذا من معنى قوله: (( إِلَّا بِالْحَقِّ ))، إذاً هذا ناموس؛ ولذلك الكثيرون يستغربون اليوم كيف أن الأمم الغربية في أوروبا ، في أمريكا الولايات المتحدة ، في اليابان ، في الصين ، في سنغافورة ، في فنلندا ، في كثير من بلاد العالم، في كوريا تحقق مستوىً عظيماً في النمو الاقتصادي، أحياناً (7%)، (8%) بشكل مطرد، تحقق إنجاز، تحقق نهضة، دخل الفرد يرتفع، أشياء كثيرة جداً ويستغرب، يلتفت إلى العالم الإسلامي الذي يتلى المصحف؛ في محاريبه ومساجده وعلى منابره والحفاظ يعدون بالملايين، ولله الحمد والمنة، فيتساءل الإنسان: أين تأثير هذا القرآن في تحفيز الناس إلى العمل، وإلى الإبداع، وإلى التفوق، وإلى النجاح، وإلى الإنجاز حتى في الدنيا. فهذا من معاني (( إِلَّا بِالْحَقِّ ))، أن الله تعالى ينصف حتى الكافر في هذه الحياة الدنيا؛ بل أكثر من ذلك، من الحق أن الكافر إذا عمل أشياء طيبة في الدنيا مثل الصدقة والإحسان والمعروف فإن الله تعالى لا يظلمه منها شيئاً، وإنما يجازيه في الدنيا، يعجل له جزاء ما عمل في الدنيا، بسعة الرزق، بالعافية، بالصحة، بالسعادة، وإذا أسلم قبل أن يموت حفظ الله له ما كان عمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـحكيم بن حزام : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) لما سأله عن أعمال طيبة كان يعملها في الجاهلية من صدقة وصلة رحم وبر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسلمت على ما أسلفت من خير )، وفي البخاري عدد من الأحاديث تدور حول هذا المعنى، إذاً هذا من الحق. أنواع الأجل وبيان المفهوم الصحيح لنهاية العالم (( وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ))[الأحقاف:3]، إذاً: السموات والأرض لها أجل، هناك أجل فردي أجلي وأجلك، (( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))[الأعراف:34]، الموت، وهذا الأجل هو القيامة بالنسبة لك، بعضهم يقولون: متى الساعة؟ ( إذا مات ابن آدم قامت قيامته ).الثاني: أجل الأمة، قال الله تعالى: (( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ))[الأعراف:34]، ما يوجد أمة باقية إلى قيام الساعة، وهنا المقصود بالأمة إما المقصود الجنس من الناس مثل الأمم التي كان الله تعالى يهلكها في الماضي بالطوفان، أو بالزلزال، أو بالصيحة، أو بالريح، أما اليوم فالغالب أن الهلاك يكون بزوال الدول وحلول دول أخرى محلها، سواءً كانت هذه الدول دولاً إسلامية، تجد مثلاً حتى دولة الخلفاء الراشدين لها أجل أو ليس لها أجل؟ مداخلة: لها أجل.الشيخ: لها؛ لأنها أمة لها أجل، وبنو أمية، وبنو العباس، المماليك، العثمانيون، الأتراك، وغيرهم، وهكذا هذا أجل مثل أجل الأفراد، كل أمة أو دولة تمر بمراحل مراحل صغر أو فتوة، ثم شباب، ثم كهولة، ثم شيخوخة، ثم هرم، ثم الموت.وهناك الثالث وهو أجل العالم كله، (( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ))، يعني: خراب الكون، (( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ))[التكوير:1-2]، وهذا هو يكون يوم القيامة، واليوم قضية نهاية العالم الأجل المسمى قضية مقلقة، هناك فيلم يشاهدونه في الغرب ورأيت إعلانات فيه كثيراً أظن عنوانه: ألفان واثنا عشر، يتكلم عن نهاية العالم، هناك كثير من الحسابات عند الهنود وغيرهم في أمريكا الجنوبية يتحدثون عن معلومات قريبة من هذا، في بعض الكتب السماوية المقدسة المحرفة طبعاً يوجد أشياء وظنون من هذا القبيل، وأيضاً في الثقافة الإسلامية شيء من هذا كما تجدون في كتب التاريخ، وقد نقل السيوطي وغيره طرفاً منه؛ ولذلك يتكلمون عن هرمجدون، يتكلمون عن نهاية العالم، المعركة الفاصلة بين الخير والشر، الغريب أن المعركة موجودة عند المسلمين وعند اليهود، وعند النصارى أيضاً، ولكن رأيت كثيراً من المسلمين وبين قوسين (والمسلمات)؛ لأن المرأة أرق عاطفة، وأكثر تأثراً واستقبالاً للمشاعر؛ مشاعر السعادة أو التعاسة الخوف أو الفرح تتفاعل معها أكثر من الرجل، فكثيراً ما يسألن البنات عن قضية نهاية العالم وأنه أنا أعيش في رعب وفي خوف، ولا تهنأ بنوم ولا بعيش، وحتى صلاتها أحياناً.. إما تتخوف من موت يصيبها، أو تتخوف من زوال العالم، وبمناسبة حصول ما يسمونه بالربيع العربي والثورات التي حصلت في أكثر من بلد إسلامي، وجدت في اليوتيوب أيضاً في بعض المسلمين قدموا رؤية معينة حتى قبل حصول هذه الثورات؛ عن أنه سوف تحصل ثورات، وسوف تقوم شعوب، وستتغير دول، وسيكون للإعلام دور في ذلك، وكتبها بعض المسلمين تكلموا فيها بخطب قبل سنوات عديدة، فلما حدث الأمر الذي حدث استعاد الناس هذه الأشياء وبدءوا يقرءونها، ثم وجدوا أنه قالوا: إنه بعد ذلك سيكون اليهود يملكون سلاحاً ضخماً عالمياً مفاجئاً، وسوف يتغير الكون ويسيطر اليهود .. الذي أصاب في شيء لا يلزم أن يصيب في كل شيء، هذه نقطة ينبغي أن نتفطن لها، يعني: كون الإنسان أصاب جزءاً من الحقيقة هو ليس كتاباً مقدساً، وليس وحياً معصوماً تأخذ كل ما فيه، وإنما يجب أن يكون الإنسان يدرك أن الإنسان يخطئ ويصيب، وهذا من الحدس والتخمين والظن، و أبو بكر الصديق هو أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرد له ذكر إن شاء الله، ومع ذلك لما فسر بعض الرؤى خاصةً المتعلقة بالحكم والخلافة وتحولات الأمة، ( جاء رجل رأى رؤيا ففسرها أبو بكر ثم قال: يا رسول الله! أخطأت أم أصبت؟ قال له النبي عليه السلام: أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً )، هذا الصديق ما أصاب (100%)، قال: ( والله يا رسول الله لتخبرني أين أصبت؟ وأين أخطأت؟ يريد أن يتعلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم ) ولم يخبره، لماذا لم يخبره؟ إشارة إلى أن هذه الأمور مما لا ينبغي الإلحاح وراءها في مسألة أين الخطأ وأين الصواب؛ لأن الأمور هذه ليست مما تعبد به الناس. فلذلك أقول: لا ينبغي أن يكون موضوع نهاية العالم لا ينبغي أن يتم تعاطيه بطريقة مليئة بالطلاسم والألغاز والرموز، ولا ينبغي التشرب والتشبع ببعض المعاني الموجودة في الكتب المسيحية أو اليهودية ، أو كتب شعب المايا الهندي، أو حتى بعض كتب الإسلاميين، واستشعار أنه.. وحتى لو فرض أن الساعة تقوم الآن، ليس المطلوب أن الإنسان يكون مرعوباً، وإنما المطلوب أن يكون إنساناً إيجابياً؛ ولهذا في مسند الإمام أحمد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة )، هل قال: فليرمها مثلاً وليذهب إلى المسجد؟ لا، قال: ( فليغرسها، فله بذلك أجر )، إذاً يجب أن يكون المفهوم الإسلامي في موضوع نهاية العالم مفهوماً مختلفاً ومفهوماً متطوراً وعظيماً.قال سبحانه: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ))[الأحقاف:3]، عما أنذروا من البعث والجزاء والحساب، (معرضون)، أي: أنهم يعطونه جانباً ولا يلتفتون إليه. إشراقات في قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) انحطاط الإنسان عن رتبة الإنسانية عند منحه الألوهية لحجر أو شجر (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ))[الأحقاف:4]، بدأ معهم المناظرة الآن، (( مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ))[الأحقاف:4] من الأصنام والأنداد، وهم كانوا يعبدون حجارة، فالله سبحانه وتعالى ينعي عليهم؛ أن هذه الحجارة هي أقل مستوى من الإنسان، فالإنسان يسمع ويبصر ويتكلم ويأكل، بينما هذه الحجارة لا تقدر على شيء من ذلك، فكيف ينحط الإنسان عن رتبة الإنسانية إلى أن يمنح الألوهية المدعاة لحجر أو شجر.أنا مرة في ماليزيا رأيت صنماً ضخماً تمثالاً قد صنعه الصينيون، ويعبدونه، وتأتي طالبة في الجامعة، أو يأتي بروفسور أو دكتور ليقفوا عنده ويطلبوا منه ويضعون الأوراق له في حاجاتهم، بينما مكتوب عليه أنه صنع عام، مثلاً (1909م)، تقول: سبحان الله! يعني: كيف الإنسان أحياناً تنحط رتبته حتى لو كان عالماً قد يكون فيزيائياً أو كيميائياً أو خبيراً أو طبيباً، ولكن في هذا الجانب إذا لم توافقه وترافقه هداية الله سبحانه وتعالى فإنه يضيع.قال سبحانه: (( مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ))[الأحقاف:4]، يعني: على أي أساس تدعونهم من دون الله؟ ما هي الحجة؟ هل هم خلقوا شيئاً؛ بحيث يكون لهم خلق كما قال سبحانه: (( أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ))[الطور:35]؟ ولهذا قال هنا: (( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ ))[الأحقاف:4]، يعني: ما هو الشيء الذي استقلوا بخلقه مثلاً؟ هل تقول مثلاً: هم خلقوا أستراليا مثلاً، أو خلقوا آسيا ، أو خلقوا طبقة من طبقات الأرض، أو خلقوا الشجر مثلاً، أو خلقوا الماء؟ هل أحد ادعى أصلاً هذا الادعاء؟ ما فيه، ما في أحد إطلاقاً، ولا حتى الذين يعبدونهم ما ادعوا لهم أنهم خلقوا، إذاً ما خلقوا حتى تقول مثلاً: نعبدهم لأنهم خلقوا. الاستدلال على بطلان ما يدعون من دونه سبحانه وتعالى الله سبحانه وتعالى قال هنا: (( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ ))[فاطر:40]، لم يخلقوا شيئاً، ولن يخلقوا، كما قال: (( لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ))[الحج:73]، نعم قد يستطيع الطب أن يوفر بيئة صالحة لنشوء مثلاً بعض المخلوقات التي الله تعالى يخلقها ويضع الروح فيها، لكن الإنسان لا يعرف حتى هذه الروح، ولا يستطيع أن يضخ الروح في الجسد الميت، هنا قال: (( أَمْ لَهمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ))[فاطر:40]، إذا لم يكونوا خلقوا شيئاً من الأرض، وقال: (الأرض)؛ لأنه أنتم في الأرض تعرفونها يعني، إذاً: إذا لم يكونوا خلقوا شيئاً ولا استقلوا به هل هم شراكة؟ هل ساعدوا أو أعانوا أو شاركوا في خلق شيء من السموات النجوم مثلاً أو غيرها؟ قطعاً لا، ولا هم ادعوا ذلك، ولا ادعاه لهم أحد.إذاً: يبقى لم يخلقوا شيئاً من الأرض، ولا خلقوا أو شاركوا في السموات، قال الله تعالى: (( اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ))[الأحقاف:4]، يجيء السؤال الثالث، قالوا: (( نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى ))[الزمر:3]، نعبدهم حتى نقترب إلى الله، هم وسطاء بيننا وبين الله، فهنا الله سبحانه وتعالى قال: (( اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ))[الأحقاف:4]، هذا يحتاج، هذا الآن إذاً ليس شيئاً عقلياً، وإنما هو شيء يدرك عن طريق النقل، هل أحد من الرسل، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال لكم: إن هؤلاء يقربونكم إلى الله؟ قطعاً لا، فكل الرسل جاءوا بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، (( اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ))[الأعراف:59]، ومن هنا قال: (( اِئْتُونِي ))[الأحقاف:4]، و(ائتوني) هنا ابتدأ بها قال: ائتوني، وإذا وصلها قال: (( فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ))[الأحقاف:4]، أعطوني كتاباً من كتب الأنبياء السابقين من قبل هذا القرآن، القرآن الآن هذا يحاجكم وينفي هذه الفرية، فهل ثم كتب سماوية قبله أو أنبياء؟ هاتوا هذه الكتب السماوية حتى نراها ونطلع عليها.(( اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ))[الأحقاف:4]، وقال: (هذا) إشارة إلى موجود المصحف القرآن الذي يتلى الآن. أوجه القراءات في (أثارة) في قوله تعالى: (أو أثارة من علم) (( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ))، (أثارة) أو (أثرَة) أو (أثرْة)، ثلاث قراءات، أو أثارة من علم، والأثارة إما تعني البقية أو القليل من العلم والمعرفة، يعني: أثر من شيء، مثلما إذا ذهب الشيء وبقي أثره، يعني: أعطوني ولو شيئاً قليلاً من المعرفة والعلم الذي يدل عليه العقل ويهتدي إليه، ويحتمل أيضاً في معنى الإثارة أن يكون المأثور مثل الأثر، يعني: الحديث مثلاً أو الأثر يسمى أثراً، فأعطوني إذا عندكم أثارة من علم، إذاً: نفى وجود دليل عقلي على الشرك، ونفى وجود دليل نقلي عليه، (( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))[الأحقاف:4]. إشراقات في قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) وجه استخدام (من) لغير العاقل في قوله: (..من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) قال سبحانه: (( وَمَنْ أَضَلُّ ))[الأحقاف:5]، يعني: لا أحد أضل أشد ضلالاً وتيهاً (( مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))[الأحقاف:5]، يدعونهم يطلبون منهم، وهؤلاء لا يستجيبون؛ ولذلك قال: (( مَنْ لا يَسْتَجِيبُ )) ولم يقل: ما، وعادةً في اللغة العربية (من) تقال للعاقل، أما (ما) فتقال لغير العاقل، مثل (( السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ))[ق:38]، لكن الناس تقول: من الذي شرب؟ من الذي أكل؟ فهذا الفرق بين (من) وبين (ما)، لكن هنا استخدم (من) لغير العاقل ممن يعبدونه؛ تنزيلاً لهم منزلة العقلاء؛ لأنهم هكذا كانوا يعاملونهم؛ أو لأن في بعض المعبودين من هو من العقلاء، فإنهم ربما عبدوا عيسى ، وربما عبدوا العزير ، وربما عبدوا بعض الرسل وبعض الأنبياء، وربما عبدوا بعض الملائكة أيضاً، فأشار الله تعالى إلى هذا المعنى (( مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، يعني: حتى يوم القيامة لا يستجيبون لهم، مهما استمروا في عبادتهم. وفي هذا إشارة إلى شؤم قرين السوء، فإن هذه الأصنام التي اقترنوا بها لا تنفعهم إلى يوم القيامة، وتتخلى عنهم أحوج ما يكونون إليها، وهكذا الإنسان إذا صحب أحداً صحبة السوء فإنه إذا احتاج إليه وجد الخذلان والتخلي عنه. وجه وصف الآلهة التي تُعبد من دون الله بالغفلة في قوله تعالى: (وهم عن دعائهم غافلون) ولهذا قال: (( وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ))[الأحقاف:5]، وأيضاً (غافلون) هنا وصفهم بصفة البشر يعني: في الغفلة، وفي الواقع أحياناً بعض الحجارة التي تعبد ليس فقط أنها غافلة وإنما هي أصلاً لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً، ولكن نزلها منزلة العقلاء في الغفلة، يعني: كأنك أنت الآن تدعوهم مجتهداً في دعوتهم وهم عنك غافلون، كما قال الله سبحانه وتعالى: (( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ))[الرعد:14]. تحول القرين السوء إلى عدو (( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهمْ أَعْدَاءً ))[الأحقاف:6]، انظر القرين السوء تحول إلى عدو، وهنا المعنى: أن العابدين يصبحون أعداء لمن عبدوهم، أو العكس: أن هذه الأصنام تصبح أعداءً لهم، وقد يجعل الله تعالى فيها الروح يوم القيامة حتى لو كانت حجارة، وتعترف على هؤلاء الناس، وقد يعذبون بها كما يعذب من عبدوا الشمس والقمر بالشمس والقمر، فإذا حشر الناس كانوا لهم يوم القيامة أعداءً، (( وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ))[الأحقاف:6]، يعني: يقولون: لا نعبدكم، أو يقولون: لم يكونوا يعبدوننا. إشراقات في قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) التعليق على تصديق مشركي العرب ادعاء بعضهم أن القرآن سحر قال الله سبحانه وتعالى: (( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ))[الأحقاف:7]، هذا الآن إنكارهم للنبوة، وتبعاً له إنكارهم للقرآن الكريم والوحي والتنزيل، فإذا تتلى على هؤلاء القوم آيات الله سبحانه وتعالى بينات قالوا للحق، يعني: قالوا عن الحق، (للحق لما جاءهم) يعني: عن الحق، (( هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ))، يعني: واضح شديد الظهور، وهذا شيء غريب صراحة؛ لأنه أنا عجزت أفهم ما معنى أنهم يقولون: القرآن سحر؟! القرآن كلام مكتوب ويقرأ، وفيه معاني، وفيه دلالات، هم كانوا عرباً ويفهمون، كيف انطلت القصة على أناس أن القرآن سحر؟! قالوا لك: إنه يفرق بين المرء وزوجه، هي قناعات عند الناس، آمنوا بالقرآن وهؤلاء كفروا بالقرآن، فصار بينهم تفريق، لم يوضحوا بالضبط ما معنى كلمة سحر، وهذا شيء معروف في العصر الحاضر بعلم النفس، شيء معروف أنه أحياناً بعض القادة يطلقون كلمات ويتركونها غامضة، فتأثيرها على العوام أكثر -يقول لك- من لو جلست تفسرها يعني، ويوجد كتاب اسمه سيكولوجية الجماهير كتبه عالم فرنسي اسمه غستاف لوبون ، وترجم إلى العربية، ذكر هذا المعنى أنه أحياناً القادة يطلقون للجماهير كلمات ويتناقلها الناس، ويقلدونها، ويصبح (خلاص) هذا كلام يقوله الجميع، سحر سحر سحر، وبعد ذلك ما أحد يفكر كيف يكون.. وهذا قرآن هذا ما هو بسحر، هذا كلام، يعني: نصوص، لا فيه سجع، ولا فيه ألغاز، ولا فيه غموض، وكلام واضح جداً، وكلام عربي مبين، قطعاً هم لم يكونوا يقصدون لما قالوا: هذا سحر، لم يكونوا يقصدون السحر بالمدح وإنما قصدوا بالذم، يعني: لم يقصدوا سحر البلاغة، سحر الإيجاز مثلاً في القرآن الكريم، يقول: وحديثه السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المؤمن المتحرز إن طال لم يملل وإن يك موجزاً ود المحدث أنه لم ينجز هم لم يقصدوا الثناء على القرآن بأنه سحر في بلاغته وفي جماله وفي ألفاظه ومعانيه، وإنما قصدوا المعنى السلبي، هذا غير واضح إطلاقاً، ولكنهم أرادوا ترويجها وإشاعتها عند الأغبياء والجهلة الذين لا يفكرون كثيراً في المعاني والألفاظ بقدر ما يرددونها. نسف دعوى الافتراء المزعوم من قبل المشركين (( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ))[الأحقاف:8]، يعني: هذه محاولة عندهم أنه سحر، أحياناً يقولون: افتراه، هذه أحاديث الأولين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً، (افتراه) يعني: اختلقه ولم ينزل عليه وحي، وهنا انظر الرد جاء ((قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ))، يعني: هذا (قل) كلمة هي رد على كلمة (افتراه)، بمجرد ما نقل كلامهم أنهم يقولون: افتراه، الله ألهمه ولقنه ((قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ))، إذاً حتى الرد على هذه الفرية لا يأتي من قبله هو صلى الله عليه وسلم وإنما الله يلقنه، ويقول له: (( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا ))[الأحقاف:8]، فكلمة (قل) هذه تنسف دعوى الافتراء أنه بمجرد ما نطقه؛ بين الرد عليه من الله سبحانه وتعالى على لسان النبي عليه السلام، ((قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا))، يعني: لو كنت افتريته على الله الله لن يتركني، (( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ))[الحاقة:44-47]، ويستحيل أن يكون إنسان قبل ألف وأربعمائة سنة، بل وقبله الأنبياء والمرسلون عبر التاريخ نقلوا عن ربهم سبحانه الأمر بعبادته، والأخبار، والعقائد، والإيمانيات، والتعليمات، وأتوا بالكتب السماوية كـالتوراة و الزبور و الإنجيل والقرآن والصحف ويكون هذا كله افتراء، والله سبحانه وتعالى يتركهم، ولا يؤاخذهم، ولا يبين لخلقه، هذا لا يمكن أبداً، ولا يصح من إنسان يؤمن بالله أن الله موجود أن الله سبحانه وتعالى سيدع هذا الأمر يحدث، فدل ذلك على أن ما قالوه هو صحيح؛ ولذلك قال هنا على لسان النبي عليه الصلاة والسلام: ((قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا))، يعني: لا تستطيعون أنتم أن تدفعوا عني عذاب الله سبحانه وتعالى لو عاقبني على هذا الافتراء، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، وهم أعداء له لن يحموه أصلاً، هم أعداء، ولو استطاعوا أن يضروه لضروه، ولكن قصد أنه لا أحد يستطيع أن يحول بين الله وبين مؤاخذة كل من يفتري عليه. (( هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ))[الأحقاف:8]، (تفيضون فيه) يعني: تتكلمون وتطيلون الحديث، (( كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ))[الأحقاف:8]، يكفي وحسبي الله شهيد، والشهيد هنا الشاهد الحاضر وهي متضمنة لمعنى آخر وهو الحكم الذي يحكم بيننا، فهو شهيد حاضر لا يغيب سبحانه، وهو حكم بيننا (( أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))[الزمر:46].ثم قال: (( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))[الأحقاف:8]، وهذا فيه نوع من تليين الخطاب لهم، دعوة لهم إلى أن يتوبوا؛ لأنه هنا لما حاصرهم بالحجج من السموات ومن الأرض ومن التاريخ ومن العقل ومن النقل ومن الاعتبارات، ولا يوجد عندهم هم أي أدلة، هنا قال: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))، يعني: يشجعهم على العودة إلى الله سبحانه وتعالى. التحذير من شبهات الملحدين وبهذا أود أن أشير ضمن هذه الآية الكريمة إلى معنى وهو أن الحوار الآن مع المشركين، هناك الملحدون وهم اليوم كثر، وفي العالم العربي، وفي خليجنا أيضاً، ولهم مواقع إلكترونية، ومواقع في الفيس بوك، ومنتديات، ومجالس كثيرة تقوم على أساس نشر الإلحاد والكفر بوجود الله سبحانه وتعالى، وبعض الشباب قد تتسرب إليهم مثل هذه الشبهات، فأنا أقول لبعض الشباب والبنات الذين يسألونني، أقول: الإنسان لما يؤمن بالله؛ ربما يقع عنده بعض الشبهات هذا شيء طبيعي؛ لأن العقل يتحرك، وليس كل سؤال يجد الإنسان له جواباً؛ لكن لو أن الإنسان تخيل شخصاً لا يؤمن بالله، ملحداً، انظر ليس القصة قصة شبهات سوف ترد عليه، سترد عليه حقائق بثقل الجبال وثقل النجوم والسموات والشمس والقمر والكون والأرض والتاريخ، وسيكون عاجزاً أمام هذه الحقائق الضخمة؛ بل حقائق قد تبدو صغيرة جداً، ولكن الملحد غير قادر على التعامل معها حينما ينظر إلى النملة، هذه النملة الصغيرة مثلاً كم في الدنيا من النمل؟ كل نملة عندها جهاز عصبي، وجهاز هضمي، وجهاز تناسلي، وعندها مخ في عروقها، وعندها دم، وعندها عروق وأقدام وأرجل وأجهزة وشغل، هذا التنظيم وهذا الترتيب وهذا الانضباط هل يمكن أن يكون عبثاً؟ لا يمكن، ولو أن إنساناً عنده كوب ماء ثم سقط هذا الكوب وسأل الأولاد الصغار الموجودين، قالوا: هو سقط من نفسه، لم يكن يقبل هذه الفكرة، أحد منكم أسقطه، فكيف -تخيل- بهذا الكون الضخم الهائل أن لا يكون وراءه إرادة، ولا وراءه علم عالم، ولا وراءه حكمة، شيء لا يمكن للعقول الرشيدة أن تقبله. إشراقات في قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين) (( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ))[الأحقاف:9]، هنا كانوا يطالبونه بأشياء (أسقط علينا كسفاً من السماء)، ائتنا بآية إن كنت من الصادقين، كانوا يطلبون منه بعض المعجزات، وبعض المعلومات. معنى البدع في قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل) فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (( قُلْ ))، هذا أيضاً تلقين أنه ليس افتراء وإنما هو تلقين، الله يلقنه (قل)، وكلما قرأت في القرآن (قل) فهذا تذكير بمصدر القرآن وهو الله سبحانه وتعالى، (( مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ))، البدع هو البديع، يعني: لست أول الرسل، هذا من معاني الآية الكريمة، فأنا لست أول رسول، بل سبق هو آخر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، سبقه مرسلون كثر، وهذا من الأشياء التي كانت تحرج المشركين أنه لما يؤمنون بأصل الرسالة والوحي، ما معنى أنكم وقفتوها عند عيسى مثلاً ولم تعطوها لمحمد عليه الصلاة والسلام مع الأدلة؟ فهذا اضطرهم إلى ماذا؟ أن يكفروا بالرسالات السابقة؛ ولهذا قالوا: (( مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ))[الأنعام:91]، يعني: اضطروا إلى هذا حتى ينفوا أصل الوحي وأصل الرسالة، فهنا النبي عليه السلام قال: (( مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ))، قبلي رسل كثيرون، ثم قال أيضاً من معاني (( مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ )) يعني: لم آت بشيء غريب عما جاء به الرسل قبلي، فهو جاء مصدقاً لما جاءوا به، ومكملاً لرسالاتهم ومؤيداً ومؤكداً لمبدأ التوحيد الذي جاءوا به. الرسالة والتواضع (( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ))[الأحقاف:9]، هذا أولاً فيه معنى التواضع أن الرسالة هنا ليست مجداً ولا عظمة، وإنما هي تواضع لله سبحانه وتعالى، حتى يقال: إن الله تعالى لما أنزل الوحي أنزله على الجبال التي تواضعت وتجلى سبحانه لـموسى في فاران كما يقال، فهكذا الذين يتواضعون لله يعطيهم الله تعالى العلم والحكمة والإيمان، والذين يتكبرون يحرمون منها؛ ولذلك يقولون: إن الإنسان مبتلى ما يرحم، من هو؟ الحاسد، وإنسان مرزوق ومعطى نعمة ولا يحسد، من هو؟ المتواضع. شمولية نفي الدراية عما يفعل به عليه الصلاة والسلام في الآخرة فهنا قال الله سبحانه وتعالى: (( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي )) إشارة إلى أن الأمر لله سبحانه وتعالى، والمقصود والله أعلم بهذه الآية الكريمة: (( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ))[الأحقاف:9] يعني: في الدنيا، هل أموت أو أقتل أو أهاجر أو يتحقق له شيء أو شيء آخر، هذا لا يدري عنه قبل أن يخبر، وكذلك أنتم هل تموتون أو تقتلون أو تؤمنون، الله تعالى أعلم بذلك، فهذا من الغيب، مع أن النبي عليه السلام أخبر عن بعض الأمور مثل أُخبر: ( أن النبي عليه السلام يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين )، وظنها الهجر الأحساء فإذا هي المدينة المنورة ويكفي الأحساء فخراً أنه ظنها عليه الصلاة والسلام، يعني: مجرد ظنه بها، فأما المدينة فقد حازت قصب السبق في ذلك، فهو أُخبر بأشياء ولكن من حيث الجملة لا يعلم إلا ما يخبره الله سبحانه وتعالى. ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))، أما أن ذلك شامل لأمر الآخرة كما قاله بعض المفسرين، واحتجوا له بحديث عثمان بن مظعون لما مات وقالت امرأة: هنيئاً له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم )، فالذي رجحه جمع من أهل العلم أن هذه الزيادة: ( ما يفعل بي ) ليست قوية، (وأنه لا يدري ما يفعل به، وإني لأرجو له)، وبناءً عليه قالوا: إن النبي عليه السلام يعرف أنه نبي، والنبوة فوق الولاية، والله سبحانه وتعالى يقول: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[الأحقاف:13]، (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62]، فيقيناً هو في الجنة عليه الصلاة والسلام ويعلم ذلك؛ بل النبي عليه السلام قال للإنسان: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لواحد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة )، إذاً: النبي عليه السلام يعلم ماذا سيكون له يوم القيامة، وإنما يكون هذا في الدنيا.وبعضهم قال: إن الآية نزلت قبل أن يعلم، وقبل أن ينزل عليه: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))[الفتح:1-2]، وهذا ضعيف كما ذكرت. إشراقات في قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ))[الأحقاف:9-10]، الآن هم يقولون له: إنه افتراء، فالنبي عليه السلام قال لهم: لو أنا افتريته أنتم لا تملكون لي من الله شيء الله يعذبني؛ لكن بالنسبة لكم أنتم دعونا، يعني هو قبل التحدي منهم وبعد ذلك رجع لهم مرة ثانية يسألهم: (( إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ))[الأحقاف:10]، الاحتمال الثاني الآن أنه أنا صادق، والكلام من عند الله ووحي وأنتم مع ذلك تكفرون به، ما هو شأنكم؟ ما موقفكم؟ أليس هذا ظلماً؟ أليس هذا إعراضاً؟ (( وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ))[الأحقاف:10]، الأقرب أن الآية هذه عامة؛ لأن المشركين العرب كانوا ينظرون إلى أهل الكتاب على أنهم أفضل منهم اليهود و النصارى ؛ لأنهم أهل الكتاب ويقرءون ويكتبون ويخطون، أما العرب فكانوا أميين (( بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ))[الجمعة:2]، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: افترضوا أنكم يا معشر قريش؛ وأنتم في لجاجتكم بالتكذيب بهذا القرآن رأيتم رجلاً من أهل الكتاب من بني إسرائيل يؤمن بهذا القرآن أو رجالاً، ماذا يكون موقفكم؟ هذا اختراق، وسيكون موقفكم حينها ضعيفاً ومتراجعاً؛ ولهذا قال: (( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ))[الأحقاف:10]، يعني: لو شهد شاهد من بني إسرائيل ((عَلَى مِثْلِهِ))، (على مثله) يعني: عليه، وكلمة (مثله) أحياناً تأتي بمعنى الشيء، مثل أقول: مثلك إنسان ما يغضب، مثلك إنسان كريم، وأقصد أنت، فيكون وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، و(على مثله) هنا فيها أيضاً جمالية في اللفظ، ويحتمل أن يكون المقصود شهادة شاهد من بني إسرائيل وهو موسى عليه السلام ((عَلَى مِثْلِهِ)) على مثل القرآن، وهو التوراة التي نزلت عليه، والمعنى: أن هذا القرآن جاء مصدقاً لما قبله، ومهيمناً عليه.(( فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ))[الأحقاف:10]، آمن هذا الشاهد من بني إسرائيل، واستكبرتم أنتم عنه.(( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ))[الأحقاف:10]، يعني: هذا ظلم.طبعاً هنا الاستكبار، إشارة إلى أن الاستكبار هو أعظم سبب في رفض الإيمان، وعدم قبوله، في مقابل التواضع، النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نفسه: ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم )، بينما هم مستكبرون، والكبر هو الذي حملهم على عدم السمع وعدم الطاعة. إشراقات في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) قال الله سبحانه وتعالى بمناسبة الكبر والاستكبار قال: (( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ))[الأحقاف:11]، هذا كبر؛ لأن العادة أن أعداء الرسل وأعداء الرسالات هم مستكبرون مغرورون بالملك كفرعون ، أو بالوزارة كـهامان ، أو بالمال كـقارون ، أو بالجمال، أو حتى بالعلم، (( فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون))[غافر:83]، فيقع لهم كبر، ويكون عندهم أتباع يريدون المحافظة عليهم، بينما الغالب أن أتباع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أناس بسطاء عاديون ضعفاء قد يكون معاقاً، قد يكون مريضاً، قد يكون ضعيف البنية، قد يكون مهمشاً أو مسحوقاً في الحياة، محروماً من الحقوق، وهذا ليس عيباً، الدين جاء للجميع للكل، والصحابة فيهم أمثال عثمان بن عفان و عمر بن الخطاب أقوياء في أموالهم، في أبدانهم، في أنسابهم، وفيهم أمثال بلال و صهيب و عمار ، وفي المؤمنين قريش والقبائل العربية الكبيرة، وفيهم جهينة وغفار وأسلم ومزينة وغيرهم من القبائل التي كانوا يعيرونهم ويقولون: رعاة غنم، وهذا ليس عيباً أيضاً فالنبي رعى الغنم. إذاً هنا الله سبحانه وتعالى يقول عن الكافرين: إن من أسباب رفضهم جانباً نفسياً وهو الاستكبار الذاتي (( لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ )) يقولون للذين آمنوا يعني: عن الذين آمنوا لو كان هذا الشيء خيراً ما سبقونا إليه ووصلوا إليه قبلنا.قال الله سبحانه وتعالى: (( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ))[الأحقاف:11]، يعني: إذ إن هؤلاء المشركين لم يهتدوا بالقرآن، ولم يفتحوا له صدورهم، ولم يتخلوا عن كبرهم، فلا بد أن يبحثوا عن ذريعة يثبتون بها موقفهم، ويقولون: (( هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ))، يعني: أنه كذب، و(قديم) يعني: كما قالوا: (( أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ))[الفرقان:5]، (( إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ))[النمل:68]، فهم يقولون: (( هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ )). إشراقات في قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) معنى (إماماً) في قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة) (( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ))[الأحقاف:12]، فالله سبحانه يقول: ليس هو أول كتاب، فكتاب موسى من قبله إماماً، هنا سمى الكتاب إماماً، الإمام في الأصل هو المعيار الذي يقاس عليه غيره، هذا هو الإمام، النموذج هذا هو الإمام، وأصبح الإمام يطلق بمعنى القدوة والأسوة، كما قال: (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74]، (( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ))[النحل:120]، يعني: إماماً، فهنا قال الله سبحانه وتعالى: (( كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا ))، يعني: سابقاً لما بعده من الكتب. الشرائع السماوية رحمة (( وَرَحْمَةً )) فهو رحمة للناس، جعل الله تعالى الشرائع السماوية رحمة، فليس فيها ظلم ولا بغي ولا عدوان ولا تسلط، وإنما حتى شريعة موسى اليوم اليهود عندهم في التوراة ، وعندهم في التلمود ، وعندهم في الشروح الكثيرة كما تجد عند كثير من الحاخامات، عندهم كثير من العنصرية واستحلال الدم والفجور، وحتى النصارى مع أن المشهور عنهم خلاف ذلك، لكن تجد في بعض الكتب المسيحية على لسان عيسى عليه السلام: ما جئت لأصنع سلاماً بل سيفاً أو حرباً، فهذا موجود عند اليهود بشكل واضح، وأحياناً موجود في بعض النصوص المسيحية، فالله سبحانه وتعالى هنا قال: (( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ))[الأحقاف:12]، فالله أنزل الكتب رحمة، وأرسل الرسل رحمة، وبالذات النبي عليه الصلاة والسلام (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107]، ليس فقط للمؤمنين بك، وإنما للعالمين كلهم. ولهذا قال: (( وَهَذَا كِتَابٌ ))[الأحقاف:12]، هذا أمامك؛ لأنه يتكلم عن شيء مشاهد موجود حاضر، (( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ ))[الأحقاف:12]، إذاً: جاء يعزز ويصدق ويعمق المعاني التي جاءت بها الكتب السابقة، ويوافقها ويؤيدها وينسخ بعض الأحكام، وبعض التعليمات التي فيها شدة أو عسر، (( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ))[الأعراف:157]. عظمة اللسان العربي ثم قال: (( لِسَانًا عَرَبِيًّا ))[الأحقاف:12]، هنا قال: (( لِسَانًا عَرَبِيًّا ))[الأحقاف:12]، إذاً: القرآن باللسان العربي المبين ففيه الفصاحة والبلاغة والإعجاز، وهذا دليل على عظمة اللسان العربي لاستيعابه القرآن، كما قال حافظ إبراهيم : وِسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً يعز عليها أن تلين قناتي اللغة العربية فيها إعجاز، والذي يتعمق في اللغة العربية ودلالاتها ومعانيها يجد شيئاً غير عادي، صحيح أن تعلم اللغة العربية لغير العربي قد يبدو صعباً، إلا لمن وفقه الله وعنده موهبة ومكنة لغوية، ولكن العربي الذي يقرأ اللغة ويتذوق المعاني، أحياناً يجد معان لا يستطيع التعبير عنها، شيء غير عادي، فهنا قال: (( لِسَانًا عَرَبِيًّا ))[الأحقاف:12]، ولكن تلاحظون أنه لم يقل: ديناً عربياً، فالدين ليس عنصرياً، الدين للعالم كله؛ ولذلك من الخطأ أن نقدم الإسلام للعالم على أنه دين للخليج أو للجزيرة العربية، أو للعرب، وإذا أسلم الواحد لبسناه الثوب والطاقية والعقال مثلاً، وسميناه حمد وإلا مثلاً أي اسم من أسمائنا، وأردنا منه أنه يأخذ حتى عاداتنا الاجتماعية، وتقاليدنا الموروثة التي قد تكون عادةً، وقد تكون صواباً، وقد تكون خطأً، فينبغي أن ندرك أن هذا محك خطير، وكذلك الأخلاق، لم يقل: أخلاقاً عربية، قال: (( لِسَانًا عَرَبِيًّا ))[الأحقاف:12]؛ لكن الأخلاق لا، لماذا؟ لأن العرب عندهم أخلاق عربية، وبعضها جيد مثل ماذا؟ مداخلة: الكرم.الشيخ: مثل الكرم، ولكن إن صار في حدود، أما إذا تحول إلى إسراف وتبذير وبذخ ورمي النعم فهذا ليس محموداً، وكذلك إذا تحول إلى جهالة وحمق في وضع الأموال في غير موضعها لمجرد أنه والله نحن عندنا نفط، فنضع المال ذات اليمين وذات الشمال، هذا ليس دليلاً على عقل؛ بل هذا إسراف ومذمة.وكذلك من الأخلاق العربية ماذا؟ مداخلة: الشجاعة.الشيخ: الشجاعة، والشجاعة خلق محمود أن الإنسان مثلاً شجاع، لكن في حدود أيضاً، أنت لما تنظر مثل القذافي ، هذه الشجاعة محمودة؟ أين الحمد؟ تدمير شعب وأمة وقتل وفي نهاية المطاف ترى ما الذي حاق به، ومثله أيضاً إخوانه الذين دمروا شعوبهم وحاولوا أن يحيلوا القضية إلى دماء تسيل، وأيضاً الشيء الذي تستغربوه أنها الصلابة أنه إلى آخر لحظة والإنسان يهدد ويتوعد، فتقول: هذه لا شك أن هذا ناتج عن عادة عربية، وهي الشجاعة، ولكن هنا الشجاعة محمودة أو مذمومة؟ مداخلة: مذمومة.الشيخ: مذمومة؛ ولذلك هنا قال: (( لِسَانًا عَرَبِيًّا ))[الأحقاف:12]، اللسان عربي لكن المضمون رباني، والدعوة عالمية. معنى البشرى والإحسان وعلاقة الأخير بالسعادة (( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ))[الأحقاف:12]، فهكذا هو القرآن دائماً بشيراً ونذيراً، (( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ))، مثل هؤلاء الذين كفروا، (( وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ))، هذه فيها سر أيضاً، البشرى هو خبر طيب وجميل وبشارة يعني: تتغير البشرة منه، وتنطلق أسارير الإنسان بسببه، فالله تعالى هنا جعل البشرى لمن؟ للمحسنين، وفي ذلك دليل على أن الإحسان من أسباب السعادة، كثير من الناس يبحثون عن السعادة، فالسعادة هي الإحسان، الإحسان بمعنى الإحسان إلى الناس؛ لأنه كلما تقدم للناس خيراً أو مشورة أو دعماً مادياً أو معنوياً، أو تساعد أحداً، فهذا ينعكس عليك بالرضا والسعادة، هذا معنى.أيضاً من معاني الإحسان: الإتقان في العمل، الجودة كما يسمون اليوم في العالم نظام اسمه الجودة الشاملة، بمعنى أن الإنسان يتقن العمل، ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )، جودة الإنسان في أي عمل حتى لو كان لعباً، فهنا أيضاً من الثابت أن النجاح يولد السعادة حرص الإنسان على أن يكون ناجحاً في عمله، في تدريسه، في دراسته، حتى لو كان فراشاً أو منظفاً لمكان معين، أو مديراً أو كبيراً أو صغيراً، فهنا المهم إتقان العمل وتجويده، فهذا يمنح الإنسان الرضا الداخلي، وطبعاً مما يضاعف الرضا إذا كان الإنسان يجد تقديراً لهذا العمل، تقديراً ممن فوقه بالشكر، بالتحفيز، بالمكافأة، بالكلمة الطيبة، أما إذا كان الناس سواسية الذي يأتي مبكراً أو متأخراً، المبدع والمهمل، الجاد والهازل، الكل سواسية، فهذا لا شك أنه يدمر إمكانيات الناس، ويضعف العطاء، وأكثر منه إذا كان الإنسان يشعر بأن هناك تخصيصاً لأناس، لكن ليس بسبب إبداعهم أو إحسانهم، أو تجوديهم للعمل، وإنما لأن هذا قريب، أو ابن عم، أو جار، أو صديق، أو أنه يخدمني بسيارته مثلاً، أو يقوم بأعمال معينة شخصية، فهذه الثقافة اليوم مع الأسف تجدها في كثير من مجتمعاتنا تدمر المدرسة، تدمر المؤسسة، تدمر الوزارة، تدمر البلد حتى بأكمله، بينما في بلاد الله الإنسان لما يعمل يجد قيمة وثمرة هذا العمل، فيحصل على بشرى؛ لأنه محسن فيحفز الناس إلى أن يتسابقوا ويتنافسوا فيه. إشراقات في قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) قال الله عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[الأحقاف:13]، يعني: بعدما حاورهم وجادلهم انتقل السياق إلى ذكر المؤمنين الذين قالوا: (ربنا الله ثم استقاموا). إشارة إلى أهمية الإيمان وهنا لاحظ أنه قال: (( قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ))، هذا هو الإيمان، والإيمان هو الركن الأعظم والأهم؛ لأنه لا قيمة لعمل إلا بإيمان؛ ولذلك في سورة البلد مثلاً قال: (( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ))[البلد:14-17]، (ثم كان) هذا إشارة إلى الترقي، ومع ذلك وقبل ذلك كان من الذين آمنوا؛ لأن الإيمان شرط. حقيقة الاستقامة بينما هنا قال: (( الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))، فكلمة (ثم) مشعرة بأن الاستقامة ليست شيئاً يسيراً، وإنما هو أمر يحتاج إلى صبر ومطاولة ونفَس حتى يحصل الإنسان عليه، الاستقامة شيء يحصل عليه الإنسان بشكل تدريجي، الاستقامة تعني المداومة على شيء، وقد يستقيم الإنسان اليوم ولا يستقيم غداً، وهكذا هو الإنسان مجبول على التحول وعلى التنقل؛ ولذلك لا ينبغي لفتى أو فتاة أن ييأس إذا وجد أنه والله زلت به القدم، أو تاب من ذنب ثم رجع إليه، أو أخطأ خطأً وسبق أن وقع في هذا الخطأ فيقول: لا فائدة، لا، أو أنه اليوم نشط وغداً ربما يفتر، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة )، هكذا هو الإنسان تمر به حالات إشراق وتألق واندفاع ورغبة وحماس، وتأتي حالات أخرى ربما يصيبه قدر من الركود والخمود والهمود والقعود، وربما أيضاً يقع في أخطاء أو زلات، هكذا هي الحياة طريق محفوف بمثل هذا، على الإنسان هنا أهم شيء ألا تيأس، وألا ينفصل قلبك عن الطريق، وألا تستسلم لنزغات النفس والهوى والشيطان، واصل حتى لو وقعت في الذنب ألف مرة تب بعد ذلك، وحتى لو ضعفت نفسك احرص ألا يبلغ الضعف مبلغه، المحافظة على الفرائض، ترك الموبقات والفواحش، الاستغفار، التوبة، الإحسان إلى الفقراء، الضعفاء، المساكين، الأيامى، اليتامى، الأرامل، المحتاجين، بر الوالدين، صلة الأرحام، في مجال كبير جداً، وكل ذلك داخل في الاستقامة.والاستقامة يا أحبتي ليست مجرد نظر، ليست مجرد شكل، في مجتمعنا الكثيرون الاستقامة عندهم تختصر بلحية وثوب قصير، لا، ( التقوى ها هنا ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والاستقامة معنى قلبي، ومعنى داخلي، نعم، يفيض أثرها على الجوارح، لكن الجوارح أيضاً معاني عظيمة، الصلوات، والعبادات، والطاعات، والأخلاق، والمعاني، والواجبات، وأداء الحقوق للناس، للزوجة، للجار، للابن، للأب، للأخ، للقريب، للشريك، أما أن يكون الإنسان ربما يتمظهر اجتماعياً بشكل معين، ثم بعد ذلك يسترخي ويعطي نفسه الحق في كثير من التساهل، فهذا خطأ اجتماعي ناتج عن المبالغة، أو عدم التوازن في تقدير أهمية الأشياء، فيه أشياء لها أصل في الشريعة نعم، ولكن ربما نحن أعطيناها أضعاف أهميتها، وبالمقابل فيه أشياء هي أكثر أهمية ربما يتجاهلها الكثير من الناس، فتجد الإنسان مثلاً يمكن يغش، أو يكسب ويأخذ المال بغير حله، أو يتلاعب بالوقت والدوام، أو يتلاعب بحقوق الناس، أو يظلم زوجته، أو حتى بينه وبين نفسه ربما يفعل أشياء كثيرة موبقة، ومع ذلك يتمظهر بشكل آخر، فالاستقامة هنا معنى عظيم، ويجب الوقوف عنده. علاقة الخوف والحزن بالتعاسة والاكتئاب هنا قال: (( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[الأحقاف:13]، وجدت ولاحظت أن التعاسة والبؤس والاكتئاب الذي يعاني منه نسبة غالبة من الناس اليوم؛ قد تصل إلى (50%) أحياناً تدور حول معنيين: الخوف والحزن، الخوف من المستقبل، والحزن على الحاضر أو على الماضي، فتجد كثيراً من الناس حزيناً مهموماً مغموماً، والنبي عليه السلام كان يستعيذ بالله من الحزن، والهم والغم، فهنا قال: المؤمن لا خوف عليه ولا هو يحزن. الإيمان بالله مصدر للرضا والسعادة (( قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[الأحقاف:13]، إذاً: الإيمان بالله مصدر للرضا، ومصدر للسعادة، أما في الآخرة فهذا واضح جداً، أما في الدنيا فأيضاً من المؤكد أن الإيمان من أسباب السعادة، ومن أسباب العلاج، ومن أسباب الشفاء، ولكن يجب ألا يفهم أحد من هذه الآية أنه والله إذا مر به حزن أو خوف معنى ذلك أن إيمانه مشكوك فيه؛ لأن هذا يزيده حزناً، والواقع أن الإنسان قد يكون مصاباً بمرض نفسي، الاكتئاب مرض نفسي، الاضطراب مرض نفسي، هناك قائمة طويلة جداً من الإصابات النفسية، والعوائق النفسية، والمتاعب، والأعراض، إذاً: قد يكون الإنسان مؤمناً قوي الإيمان ومع ذلك يصاحبه شيء من هذا، فعلى الإنسان ألا يخلط بين هذه المعاني. التأكيد على أهمية العمل (( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا ))[الأحقاف:14]، (أصحاب الجنة) تعبير كريم، ليس فقط في الجنة، وإنما هم أصحاب الجنة، كأنهم أهلها وهم أصحابها الملازمون لها، الجديرون بها.(( خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[الأحقاف:14]، نعم هم تأهلوا للجنة برحمة الله، لكن رحمة الله حصلوا عليها بأعمالهم، وهذا تأكيد على أهمية العمل، وقيمة العمل، وأن الإنسان لا يدخل الجنة بمجرد كونه قرشياً مثلاً أو حتى لو كان ابن نبي، وكل الناس اليوم أبناء نبي. أبوهم آدم والأم حواء وإنما ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ). إشراقات في قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها...) وجه مناسبة ذكر الإيصاء بالوالدين عقب ذكر التوحيد والنبوة والمعاد والاستقامة ثم قال الله عز وجل: (( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ))[الأحقاف:15]، هنا انتقال غريب، نحن الآن في جدل؛ في قضية الألوهية، والوحي، والنبوة، والمعاد، وقصة موسى وقوم موسى و.. إلى آخره، بعد ذلك انتقال إلى ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا))، وفي قراءة: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) في هذه الآية، والمعنى متقارب، لماذا انتقل إلى موضوع الوالدين؟ أولاً: ربما يكون بدأ بالإيمان وثنى ببر الوالدين، وهما مرتبطان، حتى ( سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن أفضل الأعمال؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين )، إذاً بر الوالدين مرتبط بالإيمان، هذا معنى، احتمال.الاحتمال الثاني: أن ذلك تمهيد، قوله: (( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ))، أن ذلك تمهيد لذكر موضوعات أخرى متعلقة بالكفر وإنكار البعث، كما قال في الآية التي بعدها: (( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ))[الأحقاف:17].وفيه معنى ثالث خطر في بالي أنه قد يكون من المعاني: أن المشركين فيما سبق كانوا يستخفون ويحتقرون المؤمنين؛ لأنهم فقراء مثلاً، أو ضعفاء ليس لهم سلطة، وليس لهم قوة، وليس لهم إمكانية، وليس عندهم أموال مثلاً، فهنا انتقل إلى معنى آخر كان المشركون أيضاً يسخرون فيه من المؤمنين وهو أنهم شباب، فكانوا يقولون: إنهم حدثاء الأسنان الذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، صغار السن، ليس لديهم خبرة ولا تجربة، والعادة أن الشباب هم أكثر قبولاً للدعوات، وأكثر استعداداً للتجديد، وأكثر تشرباً بالأفكار السليمة، وأكثر تطلعاً إلى التغيير، الشباب ليس عندهم مشكلة طويلة، ولا عاشوا خمسين ستين ثمانين سنة مع أوضاع معينة وألفوها، هم يستأنفون الحياة من جديد؛ ولذلك عندهم أسئلة كثيرة، ولديهم طموحات وتساؤلات، وأيضاً يريدون أحداً يعترف بهم وبشخصياتهم، ولا يهمشهم، وخاصةً في مجتمعاتنا العربية 50% شباب، في مجتمعنا الخليجي أحياناً (70%) شباب، تتساءل: أين هؤلاء الشباب؟ في كل واحد منهم عنده شخصية ويريد أن يتم الاعتراف به من قبل المجتمع، يريد أن يسمع صوته؛ ولذلك تجدهم الآن مثلاً في الفيس بوك وفي التويتر وفي هذه الأدوات ما شاء الله على قدم وساق، بشكل غريب؛ لأنهم يجدون المكان الذي يعبرون فيه عن أنفسهم بطريقة في الغالب أنها سليمة، وأحياناً حتى لو لم تكن سليمة؛ لأنه يتعلم، يخطئ اليوم ويصيب غداً، لا يجب أن تلومه، تعلمه أولاً، فكانوا يعيبون على أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم شباب، وقد كان لسان حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول وربما كل نبي: ( بعثت فحالفني الشباب، وخالفني الشيوخ ). الشيوخ في العادة عندهم حسابات طويلة، وتفكير طويل، ومبالغات في بعض الأمور أحياناً، وقد لا تلومهم؛ لأن هذا الذي وصل إليه تفكيرهم، حتى أنه لما صارت الأحداث في مصر ، وأزيح الرئيس السابق كنت أشاهد الإخوة المصريين عندنا هنا، فإذا رأيت شاباً مصرياً في الثلاثين من عمره وجدته مبتسماً فرحاً مسروراً مستبشراً، لكن إذا رأيت رجلاً مثلاً في الخمسين في الستين أحياناً أخاطبه أقول: مبروك ما شاء الله، فأجد أن ملامحه جامدة، ولا يتقبل، لماذا؟ ما الخطب؟ ما الخبر؟ قال: والله ما ندري ماذا تكون عليه الأمور، ويمكن تكون الأشياء أحياناً بطريقة خطيرة، يمكن يكون الوضع أسوأ، فهكذا الخلاف والفرق بين الشباب وبين الشيوخ، سأزيد هذه النقطة إيضاحاً بعد قليل في نهاية الآية. الإيصاء بالإحسان إلى الوالدين ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا))، هذه وصية الله بالوالدين، يعني: بعد التوحيد يأتي موضوع الوصية، وهي من أعظم القيم الإيمانية التي بعث بها الرسل، كما قال الله: (( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ))[مريم:14]، ولكن جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليكرس ويؤكد هذا المعنى، ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا))، ((وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا))، حتى قال: (( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ))[لقمان:15]، سبحان الله! يعني: لو كان الوالد مشركاً وعنده صنم في المجلس وصنم في (المقلط)، وصنم في الصالة، وصنم في غرفة النوم، نسأل الله الحفظ والوقاية والهداية، ليس هذا فقط، ولكنه يأمر الولد بعبادة هذه الأصنام، وليس هذا فحسب، وإنما يجاهده على ذلك، ما هي مرة واحدة أو مرتين جهاد، مع ذلك الله العظيم قال: (( فَلا تُطِعْهُمَا ))[لقمان:15] في المعصية، (( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ))[لقمان:15]، فهذا معنى رائع، وأنا وجدت فيه كثير من الغربيين أسلموا بسبب هذا المعنى أنهم وجدوا نماذج واقعية في بر الوالدين، لا زالت المجتمعات الإسلامية تحتفظ بها من الأبناء ومن البنات، حتى لو كان الولد يتذمر، البنت تتذمر أحياناً، أبي ما يفهمني، أمي ما تفهمني، معارضة في تدريس، معارضة في زواجها، كثير من الأحيان الآباء يعني يعوقون بناتهم والأمهات أيضاً عن الزواج، وكل أحد يتدخل في زواج البنت، حتى الخدامة أحياناً تتدخل في الزوج يمكن، وهذا يصلح وهذا ما يصلح بحيث أنه فيه تقليل من الخيارات الفردية، ومن منح الإنسان حق الاختيار يعني في الأصل، لكن مع ذلك كله يضل أن مبدأ البر بالآباء مبدأ إسلامي راقي وعظيم، ولا يزال ولله الحمد المجتمع يحتفل بنماذج جميلة منه. تخصيص الأم بالذكر في قوله تعالى: (حملته أمه كرها ووضعته كرها) وبيان دلالته والعجيب هنا قال: (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ))[الأحقاف:15]، يعني: على طول بعد (وصينا الإنسان بوالديه) النص تجاوزنا نحن الرجال وذهب إلى أين؟ مداخلة: للأم.الشيخ: للأم، وهذا دليل على أن حق الأم في البر أعظم من حق الأب؛ لأنها حملت؛ ولأنها ولدت؛ ولأنها أرضعت، فهي قامت بثلاثة حقوق لم يقم بها الأب؛ ولأن الأم أحوج إلى البر؛ ولأن نفسيتها أكثر تأثراً بالعقوق من الأب، ربما الأب قادر على أن يدبر نفسه، وأيضاً الأب فيه نوع من القوة والشدة التي تجعله يتحمل بعض الحالات، لكن الأم تنكسر من ذلك، وخاصةً حينما تكون الأم تعاني أصلاً في بيت الزوجية من قسوة الزوج وظلمه، وربما أحياناً الضرب، فإذا اتصلت بي والثاني والثالث قلنا لها: بنت الحلال اصبري وتحملي من أجل هؤلاء الصغار، ولعل الله سبحانه وتعالى يعوضك فيهم خيراً، ويكبرون وترين برهم، فإذا كبر هؤلاء الصغار ورأوا أن أباهم يؤذي أمهم تربوا على ذلك وأصبحوا يستخدمون الألفاظ البذيئة، ويزدرون الأم، وربما لا يقيمون لها وزناً، فحق الأم عظيم؛ ولهذا قال: (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ))، وكل واحد منا يتذكر أنه كان يوماً من الأيام جنيناً في بطن أمه، وأنه عبر إلى هذه الدنيا عبر آلامها ومعاناتها ومخاضها. المقصود بالكُره في قوله تعالى: (حملته أمه كرها ووضعته كرها) وأوجه القراءات فيها وهنا قال: (( كُرْهًا ))، (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ))، ( كَرهاً ) أو (كُرهاً ) قراءتان، وليس المقصود أن الأم تكره الحمل، الأم تحب الحمل، وتريده، وتفرح به، ولكن المقصود بالكره هنا المشقة التي تعانيها، وأحياناً ما يسمى بالوحم، المرأة إذا حملت في مرحلة من المراحل يصبح عندها كره للأشياء، كره لأطعمة، ويصبح عندها ضيق وحالة نفسية صعبة يعني، معاناة؛ لأنه هناك مخلوق آخر يزاحمها في داخل جسدها، (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ))[الأحقاف:15]، أيضاً الوضع هنا فيه آلام تكسر العظام عند المخاض، كأن هناك شيئاً يهشم العظام. إذا ما تكورت في داخلي وأثقلت جسماً خفيفاً خلي وصارت تدمدم ريح المخاض ولم يبق شيء سوى الآهي لي فهنا معاناة صعبة، تكاد الأنثى أن تموت منها، ولكن بمجرد ما ترى هذا القمر إلى جوارها، وهو يصرخ تبتسم وتنسى ألمها ومعاناتها، فسبحان الله من جبل المرأة على هذه المعاني الراقية العظيمة الذي جعلها مصدراً بإذنه للتناسل في هذه الحياة. أقل مدة الحمل (( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ))[الأحقاف:15]، فهنا هي ثلاثون شهراً، يعني: سنتين ونصف، في آية أخرى الله سبحانه وتعالى قال: (( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ))[البقرة:233]، فإذا خصمنا أو أخذنا حولين كاملين كم بقي من ثلاثين شهراً؟ مداخلة: ستة أشهر.الشيخ: ستة أشهر؛ ولذلك قال الفقهاء كـالشافعي وغيره، وجاء هذا عن علي رضي الله عنه قاله لـعمر وقاله لـعثمان في المرأة التي ولدت لستة أشهر: [إن أقل الحمل في القرآن الكريم يكون لستة أشهر]، ويكون لسبعة أو ثمانية أو تسعة، وقد يتعدى ذلك، إذاً هذه مدة الحمل، وما بقي من الثلاثين شهراً تكون للإرضاع وهو الفصال؛ ولذلك قال: (( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ))[الأحقاف:15].ولما قال: (( ثَلاثُونَ شَهْرًا ))، كان في إرادة التكثير أن القصة هنا بالنسبة للأم، يعني الأب مثلاً مع مكانة الأب والأب له فضل عظيم، ولكن مع ذلك كأن الآية فيها إشارة إلى أن الأب ربما لم يعاني من ذلك شيئاً قط، وإنما كانت متعة، وكانت شهوة، وكانت غريزة، بينما الأم هي التي تحملت العناء والتعب لمدة ثلاثين شهراً. المقصود بالذي بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قوله: (( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ))[الأحقاف:15]، هنا كأن الكلام انتقل إلى شخص معين، والأقرب أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفي الوقت ذاته الكلام عام ليس خاصاً ولكن هو سبب النزول، فعلى هذا نستطيع أن نقول: أنه ربما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان حمله وفصاله ثلاثين شهراً؛ بل ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً))، هذا فيه بحث طويل أنه الآن الطفل ولد، وفصل يعني: فطم عن الرضاعة، أصبح عمره يمكن سنتين أو قريباً من ذلك. المراد ببلوغ الأشد وبيان حقيقة السعادة المعنوية قال: (( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ))[الأحقاف:15]، بلوغ الأشد قد يعني ما نسميه الآن بمرحلة المراهقة، كما قاله جمع من المفسرين قالوا: أربع عشرة سنة، قالوا: البلوغ، قال بعضهم: خمس عشرة سنة، قال بعضهم: ثماني عشرة سنة، وهو عند الحنفية وجماعة، وهو الذي أميل إليه أن يكون بلوغ الأشد ثماني عشرة سنة وما حولها، وبناءً عليه يكون الله سبحانه وتعالى ذكر لنا الولادة والرضاع، ثم المراهقة، ثم بلوغ الأربعين. وبعض المفسرين قالوا: إن المعنى (( بَلَغَ أَشُدَّهُ ))، يعني: أربعين سنة، فتكون أربعون سنة عنده هي بلوغ الأشد، وبعضهم قالوا: خمسة وثلاثون سنة، وبناءً عليه يكون في الآية شيء من التكرار، وأيضاً يكون تجاوز السياق مرحلة مهمة جداً للفتى والفتاة، فالفتى مثلاً ببلوغ الأشد أو المراهقة يكون عنده تحولات مثل خشونة الصوت، والحنجرة، والأنف، وكذلك طبعاً يكون عنده مرحلة البلوغ والرجولة، ونبات الشعر في جسمه، وهكذا الأنثى يكون عندها أيضاً ظهور علامات الأنوثة في صدرها، والحيض، واعتبارات معينة تجعلها فعلاً أصبحت في قائمة المرأة، فهذا مرحلة بلوغ الأشد مرحلة المراهقة، وكأن الإشارة في الآية إلى هذا المعنى إشارة إلى أهمية هذه المرحلة، وضرورتها، ومعالجتها، وأنها مرحلة الرجولة أو الأنوثة بالنسبة للإنسان وهي مرحلة التكليف؛ ولذلك أيضاً تمت الإشادة بها، وهي مرحلة وسيطة ما بين الرضاعة وما بين بلوغ الأربعين، فمر على مراحل عمر الإنسان كلها مروراً سريعاً ((وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً))، الأربعين هذه اكتمال النضج وبداية يعني العد التنازلي؛ ولذلك بعضهم يقول: الشباب إلى أربعين، أنا كنت أقول: الشباب إلى أربعين سنة، فقط بعدما جاوزت أربعين سنة حسيت في داخلي أنه صعب إنك تقول: الشباب إلى أربعين سنة، فمددتها إلى الخمسين، وبعد الخمسين أصبحت أقول: إن الشباب ليس له مدة محدودة أصلاً، وإنما الشباب هو الروح، الشباب هو القلب، وبصراحة أنا الحمد لله أحس بأني متشبث بالحياة، وأسأل الله أن يجعلنا ممن طال عمره، وحسن عمله، وبالمقابل أشفق على كثير من أبنائي وبناتي، واليوم وأمس جوالي ما شاء الله مليان رسائل منهم؛ تجد الحديث عن الانتحار، والحديث عن اليأس، والحديث عن الإحباط، تجده لغة شائعة ومتداولة عند أبنائنا وبناتنا، نقول لهم: يكفي الله يرضى عليكم، هذه اللغة لا تستخدموها وسوف يعينكم الله، لكن (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))[الأنفال:19]، امتلك لغة إيجابية، كن متفائلاً، كن متوقعاً للخير، أحسن الظن بالله، والتقط المعاني الجميلة من كل الأشياء، وسوف تجد العون والمدد من الله سبحانه وتعالى.فهنا قال: (( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ))، بعد الأربعين يبدأ الجسم في الضعف، ولكن في المقابل يبدأ العقل والتفكير، والتجربة في القوة والنمو؛ ولذلك أظنه المتنبي الذي يقول: وأرى الليالي ما طوت من شرتي ردته في عظتي وفي إفهامي يبدأ الإنسان يفكر صح، العواقب، استشارات، تجارب، ينظر للأمور من جميع جوانبها، هذا شيء ملحوظ؛ ولذلك مهم أن يكون هناك تكامل ما بين الشباب والشيوخ، عقل الشيخ وحكمته مع حماس الشباب واندفاعه، لا بد منهما؛ لأنه أيضاً الشيوخ فقط لا يمكن أن يصنعوا لنا شيئاً بمجرد التنظير إلا إذا كانوا يتمتعون بروح الشباب، وكانوا على صلة وعلاقة وثيقة مع الشباب. (( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ))[الأحقاف:15] هكذا يقول: (( رَبِّ أَوْزِعْنِي )) وفقني وألهمني، (( أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ))[الأحقاف:15]، دعا بثلاث دعوات مهمة:الدعوة الأولى: ((أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ))، دعا الله تعالى أن يلهمه شكر النعمة، وأداء حقها، (( وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ))[الأحقاف:15]، هذه الدعوة الثانية، (( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ))[الأحقاف:15]. أيضاً يقول العلماء: إن السعادة ثلاثة أنواع: هناك سعادة مادية، وهناك سعادة معنوية، وهناك سعادة خارجية.أما السعادة الأولى السعادة المعنوية في قوله: (( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ))[الأحقاف:15]، فالنعمة التي أنعم الله تعالى عليه هي نعمة البر أولاً البر بالوالدين، والنعمة التي أنعم على والديه هي نعمة الرأفة والرحمة والحنان، فهذا يدل على أن هناك علاقة تبادلية، الآباء واجبهم الحنان والاحتواء والاحتضان، والأبناء واجبهم البر، وإذا اختلت هذه العلاقة مثلاً قصر الآباء في الحنان، الغالب أن الذي يحدث هو تقصير الأبناء في البر، وإن كان المطلوب أن الإنسان يتجاوز هذه الأشياء.وأيضاً فيها دليل على أن الإنسان إذا قام بواجبه تجاه والديه الغالب أنا أقول: قطعاً أن الله تعالى يوفقه ويرزقه أن يكون أولاده يقومون بهذا الواجب تجاهه بعدما يكبر، كما دل ظاهر هذه الآية، وهذا الكلام لا يقال فقط عن الأبوين، يقال عن العلاقة مثلاً بين المعلم وطلابه، فإذا أدى المعلم واجبه، في الغالب أن الطلاب يستفيدون ويحترمونه، يقال في العلاقة بين الرئيس ومرءوسيه مدير الشركة، أو رئيس الإدارة، أو الوزير، أو الأمير، أو الحاكم، فبقدر ما يؤدي الواجبات تكون الرعية طوعاً له، وبقدر ما يخل بها يقع الخلل في الرعية وطاعتها له.في الآية الأخيرة التي وقفنا عندها في قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً))، قلنا: إن بلوغ الأشد كم؟ مداخلة: ثماني عشرة سنة.الشيخ: ثماني عشرة، هذا.. من الذي نعطيه الجائزة؟ نبدأ بالأقرب تفضل، وكلكم تستحقون، فإن قلنا: إن بلوغ الأشد ثماني عشرة وهو ما يعرف اليوم بالمراهقة، ومما يعزز ويدل على أنه فعلاً المقصود ببلوغ الأشد ليس الأربعين، وإنما ثماني عشرة أنه فيه آيات أخرى ذكر الله تعالى بلوغ الأشد فحسب؛ علامة على بلوغ الإنسان السن التي يأخذ بها ماله، (( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ))[النساء:6]، (بلغوا النكاح) يعني: بلغوا الأشد، (( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهمْ ))[النساء:6]، وكذلك (( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ))[غافر:67]، تدل على أن بلوغ الأشد هنا مرحلة دون ذلك.وكذلك (( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ))[الكهف:82] في سورة الكهف في قصة اليتيمين، بلوغ الأشد مرتبط باستخراج الكنز، حتى أيضاً في قوله تعالى: (( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ))[الأنعام:152]، فإذا بلغ الأشد يعني: بلغ السن القانونية فإنه يدفع إليه ماله، فهذا يدل على أن المقصود ببلوغ الأشد هو مرحلة البلوغ المعروفة بمرحلة البلوغ، فإذا أضيف إليها مرحلة الرشد يعني: أن يكون عاقلاً لا يكون سفيهاً فهنا يدفع إليه ماله، وهذا يترتب عليه نقطة مهمة وهي أن العقوبات الشرعية ينبغي أن يراعى فيها سن الإنسان؛ ولذلك قد يرجح مذهب أبي حنيفة في أن الإنسان دون سن ثماني عشرة ينبغي أن يراعى أنه كأنه قبل البلوغ، بحيث إنه هنا لا يكون هناك تسرع في إيقاع العقوبات خاصةً حينما تكون عقوبات قاسية أو شديدة ألا يتسرع في إيقاعها عليه من قبل القاضي حتى يكون متأهلاً لذلك، وفي بعض الأحيان تجد مثلاً في الصحف وغيرها مثلاً عقوبة قتل أو قصاص أو إعدام على يتيم أو على طفل، ربما يكون في الرابعة عشرة من عمره بحجة أنه قد بلغ بأحد أسباب البلوغ، بينما الاحتياط في الدماء مطلوب شرعاً، ومن الاحتياط النظر في إمكانية ألا يكون هذا البلوغ تحقق، أو أن يؤخذ بأوسع الأقوال العلمية والفقهية التي هي داخلة في إطار الشريعة ليست خارجة عن الإطار الشرعي. بلوغ السن المؤشر إلى المسارعة بالتوبة والاستعداد للآخرة (( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ))، هنا بلوغ الأربعين مؤشر على أن الإنسان يتوجب عليه أن يسارع بالتوبة والاستعداد للآخرة، وهنا أذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً حديث عن أنس عند المنذري وسنده حسن، وروي مرسلاً: ( أن رجلاً جاء وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل ما ترك حاجةً ولا داجة من السيئات إلا عملها، حتى إن ذنوبه لو وزعت على الخلق كلهم لوسعتهم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تبت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب، فقد غفر الله لك ذنوبك، وأبدل سيئاتك حسنات، فقال الرجل: يا رسول الله! وغدراتي وفجراتي -شيء عظيم يعني- التي أمثال البحار؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: وغدراتك وفجراتك، فانصرف الرجل وهو يقول ويبكي: وغدراتي وفجراتي ).الأسبوع الماضي اتصل بي شاب وقال: أبي يبغى يكلمك، عنده قضية، فكلمني الشيخ الكبير، قال: أنا عمري ثمانون سنة أسأل: هل لي من توبة؟ قلت له: من ماذا يعني؟ توقعت أن هناك شيئاً خاصاً، قال: أن ما تركت ذنباً إلا عملته من المعاصي والذنوب والموبقات، والآن أنا في الثمانين وأريد أن أتوب، فقلت: أهلاً ومرحباً، ( الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل )، الحمد لله أن الله لم يقبضك إلا بعدما وفقك للتوبة، فجلس الرجل يجهش ويبكي وكأنه لأول مرة يسمع مثل هذا الحكم، فسبحان الذي يوفق من يشاء لما يشاء، وهو رجل ليس في الأربعين وإنما في الثمانين. إشراقات في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ...) الذي قال لوالديه: أف لكما هذه إذاً ملاحظات أو تعليقات أو أسئلة حول ما سبق، فهنا الله سبحانه وتعالى ذكر أولاً الإنسان الصالح: (( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ... ))[الأحقاف:15] إلى قوله عز وجل: (( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ))[الأحقاف:17]، هذا الآن قصة جديدة، من هو الذي قال لوالديه: (أف لكما)؟ يقول كثير من المفسرين: أنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان اسمه عبد الكعبة ، وكان أبوه يدعوه إلى الإيمان وأمه فيقول: [ أف لكما، أتعدانني أن أخرج، تعدونني بالبعث بعد الموت وقد خلت القرون من قبلي ]، والواقع أن هذه القصة وإن تناقلها المفسرون إلا أنها مستبعدة، وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري ، وأظن أن القصة هذه ذات بعد سياسي، فإن بني أمية معاوية لما أراد أن يعهد بالخلافة من بعده إلى ابنه يزيد؛ أرسل إلى الأمصار والمناطق وطلب منهم أن يمهدوا عند الناس، فقام مروان وهو أمير الحجاز في المدينة وخطب، وقال: [ إن الله أرى أمير المؤمنين رأياً في ولده يزيد وهو رأي حسن أن يعهد إليه بالخلافة من بعده، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، وقال: كسروية هرقلية؟ وقد كان أبو بكر و عمر رضي الله عنه لم يصنعوا ذلك، فتحولونها إلى هرقليةً كسروية، فغضب منه مروان وقال له: اسكت، هذا هو الرجل الذي أنزل الله تعالى فيه: ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا))، فسمعت عائشة هذا الكلام، فقالت: والله ما نزل فينا أهل البيت شيء إلا أن الله تعالى أنزل براءتي من السماء ]، فنفت ذلك، وتناقلها المفسرون، والدليل على ذلك أن عبد الرحمن قد أسلم، وحسن إسلامه، وختم له بخير، وهو من الصحابة، فهذه القصة عليها آثار الصنعة أو البعد السياسي، وإنما هذا يحمل على المعنى العام في كل من يصلح له هذا الكلام؛ أن والديه صالحان، وهو على غير ذلك. معنى كلمة (أف) وأوجه القراءات فيها فهو يقول لوالديه: (أف لكما)، و(أف) كلمة تضجر يقولها الإنسان حينما يكون متضايقاً (أف)، يعني: متضايق من شيء معين، وقرئت بخمسة أوجه: (أفٍ) أو (أفاً) أو (أفُ) بالتنوين وغيره، (( أُفٍّ لَكُمَا ))، وهي كلمة تضجر، وهي بعينها الكلمة التي نهى الله تعالى الإنسان أن يقولها لوالديه: (( فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا ))[الإسراء:23]. سوء فهم لحقيقة البعث (( أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ))[الأحقاف:17]، من الأمم السابقة، وهذا سوء فهم للبعث؛ لأن البعث لا يقول أنه والله جيل يولد، وجيل آخر يبعث من جديد، وإنما البعث يكون بعد نهاية العالم، ويبعث الناس كلهم لرب العالمين دفعة واحدة، فهذا نوع من الشغب على أصل فكرة البعث بما لا طائل تحته.(( وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ ))[الأحقاف:17]، يعني: يدعوان الله سبحانه وتعالى له بالهداية، ويقولان: (( وَيْلَكَ ))[الأحقاف:17] ويل لك يعني: تحذير وتخويف، (( آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ))[الأحقاف:17] بالبعث، (( فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ))[الأحقاف:17]. مفهوم خاطئ عن القدر قال الله تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ))[الأحقاف:18]، يعني: حقت عليهم كلمة العذاب، (( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ))[الزمر:19]، (( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ))[السجدة:13]، يعني: حق القول من الله سبحانه وتعالى، وهذا معناه أن الله تعالى كتب عليهم وقدر، لكن ليس معناه أن القدر هو الذي جعلهم كافرين، فالقدر هنا يكشف حقيقتهم، ومن الخطأ أن تظن أن القدر اعتباطي، أو تعسفي، وإنما القدر هو ما علمه الله تعالى من عباده، فالله تعالى علم ما العباد عاملون، وكتب هذا عنده، فسمي هذا قدراً، وليس فيه تعسف، ولو لم يكن ثم قدر، ولا لوح محفوظ، ولا كتابة لكان الناس يذهبون إلى الشيء ذاته، فهنا كثير من الناس يخطئون في فهم القضاء والقدر، ويظنونه تعسفياً، وإنما يؤاخذ الناس يوم القيامة على الحرية الأخلاقية، والإحساس الذي يشعرون هم به تجاه الأشياء؛ أنه أنت الآن عندك بوفية مفتوح، هذه سلطات، وهذه أطعمة، وهذه مقبلات، وهذه حلوى، وهذه مشروبات تختار منها ما تشاء، وهكذا هي الحياة الدنيا، فالإنسان يشعر بحريته في الاختيار، وبناءً على هذا الإحساس وهو إحساس صادق يعذب أو ينعم، وليس في قدر الله تعالى تعسف، ولا إخضاع لأحد ولا جبرية، هذا معنى قوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ))[الأحقاف:18]، وهنا لاحظ أنه ذكر الجن والإنس؛ لأن الجن الغالب عليهم الفساد، وأيضاً تمهيداً لما سوف يأتي في آخر السورة من الحديث عن الجن، وأن الله تعالى صرفهم ليسمعوا خبر القرآن.(( إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ))[الأحقاف:18]. إشراقات في قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون * ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها... ) معنى (من) المدغمة في (ما) في قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) (( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ))[الأحقاف:19]، يعني: الصالحين وغير الصالحين، لكل أحد منهم لكل فرد (درجات) مما عمل، إما أن يكون (مما عملوا) تبعيضا، يعني: ليذيقهم بعض الذي عملوا، وإما أن تكون (من) هنا ابتدائية، فدرجاتهم هذه هي الأعمال التي عملوها.(( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهمْ ))[الأحقاف:19]؛ ولذلك قال: (( وَلِيُوَفِّيَهُمْ ))، يعني: لا ينقصهم، (( وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ))[هود:15]، وهم (( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ))[الأحقاف:19]، فحتى الكافر لا يظلم شيئاً، وقد قرر الله وحرم أن يظلم الكافر حتى في الدنيا قال: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ). معنى العرض في قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار..) قال سبحانه: (( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ))[الأحقاف:20]، والعرض هنا يحتمل ثلاثة معانٍ: الأول: على ظاهر الآية أن الكافرين يعرضون على النار، (( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ))[الشورى:45].المعنى الثاني: أنه على القلب، يعني: تعرض النار عليهم، كما يقال: عرض الإنسان البعير على الماء يعني ليشرب، فتكون النار تعرض عليهم.والمعنى الثالث: أنهم يعذبون بالنار، يعني يوم يصلون النار، ويقاسون حرها وسعيرها ويقال لهم: (( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ))[الأحقاف:20]، فيوبخون على هذا. نماذج من الصحابة الذين كانوا يتخوفون من أكل الطيبات وهنا بعض السلف رضي الله عنهم كانوا يتخوفون من أكل الطيبات كما حصل لـعبد الرحمن بن عوف لما قدم له الطعام الحسن وهو تاجر، فتذكر أخاه مصعب بن عمير وقال: [ إنه مات ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا بردة إذا غطي بها رأسه ظهرت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه ظهر رأسه، ثم فُتح علينا من الدنيا، فأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا ].وكذلك عمر رضي الله عنه له قصص كثيرة وطريفة، من ذلك أنه لما ذهب إلى الشام وقدم له خالد بن الوليد طعاماً طيباً، وربما كان ذلك في وقت مجاعة مثل المجاعة التي حصلت في عهد عمر رضي الله عنه كما يسمونها، ما اسم سنة المجاعة؟ مداخلة: الرمادة.الشيخ: الرمادة، فـعمر رضي الله عنه لما قدم له خالد بعض هذا الطعام تذكر أهل الصفة الجياع الذين كانوا يبيتون في الصفة، وقال لـخالد بن الوليد : [ قدمت لنا ولنا هذا الطعام الطيب ]، أهل الصفة ما لهم؟ (وراحهم) فقط تذكر، قال له خالد بن الوليد : [ لهم الجنة، فأثار لواعج عمر وقال لهم: والله ليس شيئاً في صالحنا إن كانت لهم الجنة ولنا الدنيا، وبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضل لحيته ].ومرة جاءه أهل العراق وقدم لهم طعامه المعتاد، يعني: قدم لهم خبزاً وإداماً، تمشية حال يعني، فرأى عمر أنهم يأكلون وهم ما يشتهون، يعني: مجاملة مثل الذي يأكل مغصوباً، فقال لهم: [ ما لكم لا تأكلون؟ والله لأنا أخبر بطيب الطعام من كثير ممن يأكلونه، ولو شئنا لاخترنا صغار المعز -تويس صغير- فسمطت لنا ]، يعني: يسلخ جلدها مندي مثلاً، [ واخترنا لباب البر فخبز لنا، وأخذنا شيئاً من الزبيب فنبذناه في الماء، حتى إذا كان مثل عين اليعقوب ]، انظر التمثيل والتشبيه والبلاغة، يعني: في الصفاء، [ أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكن سمعت الله يقول: (( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ))[الأحقاف:20] ].إذاً: ترفع الإنسان وخاصةً القدوة الحاكم.أيضاً مما يروى عن عمر : [ أن عتبة بن فرقد في عام الرمادة جاءه بطعام وأنواع من الفواكه، وسلة رائعة جداً، فأخذها عمر ثم فتحها وقال: يا عتبة ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين! أنت مشغول بقضايا المسلمين، وطول نهارك تدأب، أردت أنك إذا أويت في الليل إلى بيتك تأوي إلى طعام طيب يستقوي به بدنك. فقال عمر رضي الله عنه: يا عتبة لا آخذه إلا بشرط، قال: ما الشرط يا أمير المؤمنين؟ قال: الشرط ألا تدع بيتاً من بيوت المسلمين إلا وضعت فيه مثل هذه السلة، قال له عتبة : والله يا أمير المؤمنين لو أن كنوز كسرى وقيصر جمعت ما وصلت أنها توصل إلى كل بيت من المسلمين، قال: إذاً اذهب بي وأعطه المسلمين ]. فمن كان في مقام الأسوة والقدوة ينبغي أن يراعي هذا خاصةً في وقت المسغبة وضيق ذات اليد، وإلا فإن الله تعالى هنا لم يعب المشركين على مجرد الأكل من الطيبات، وكيف يعيبهم وقد أذن الله تعالى بالأكل وقال: (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ))[المؤمنون:51]، وكذلك أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ))، وقال: (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ))[الأعراف:32]. ولذلك توسع المسلمون في المشارب والمآكل والملابس وأنواع الملاذ مما أحل الله عز وجل إلا أن تكون من حرام، أو يكون فيها إسراف، أو أن يكون الناس في زمن مجاعة فيحتاج إلى أن يرعي بعضهم على بعض، فينبغي أن يدرك مثل هذا المعنى ويعتدل فيه؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً من الطيبات قط لأنه طيب، أكل التيس الحنيذ المشوي، وأكل الفواكه، وأكل ألوان الطيبات، ولكنه كان لا يتكلف شيئاً مفقوداً، ولا يرد شيئاً موجوداً، ولا يربط حياته بمستوى من النعيم لو نقص ربما تأثر أو عجز عن مجاراته. لا ترى سرفاً إلا وبإزائه حق مضيع (( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ )) إذاً: هم يعابون بإذهابهم طيباتهم، يعني: استيعاب الطيبات وعدم شكرها، وأيضاً أن هذه الأشياء التي أكلوها، وربما كانت على حساب الآخرين؛ ولذلك إذا رأيت سرفاً كما يقول بعض السلف: لا ترى سرفاً إلا وبإزائه حق مضيع، فإذا رأيت إنساناً مسرفاً فعليك أن تتأكد أنه يوجد في المجتمع من هو محروم حتى من أبسط حقوقه. حقيقة الاستكبار عن الحق والاستكبار بغير الحق وسبب تقديم ذكره في الآية على ذكر الفاسقين (( وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ))[الأحقاف:20]، في الدنيا، (( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ))[الأحقاف:20]، يعني: عذاب الهوان والذل ليس بأكلكم من الطيبات، وإنما (( بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ))[الأحقاف:20] والاستكبار هو ذنب القلب، ذنوب القلوب، الاستكبار عن الحق، والاستكبار بغير الحق، أما الاستكبار عن الحق فهو ألا يستمع الإنسان إلى الحق، وأما الاستكبار بغير الحق فهو التكبر على عباد الله، التكبر على الفقراء وعلى الضعفاء، وعلى المساكين، وعلى البسطاء، حتى أنه يترك الحق لأنهم أخذوه، مثلما قال بعض المشركين، قال: كيف نؤمن؟ لو كان هذا الدين حقاً ما سبقتنا إليه زنيرة ، و زنيرة هذه كانت جارية، كانت أمة في مكة ، وكان عمر في الجاهلية يضربها على الإسلام أسلمت و عمر لم يسلم، فكان يضربها، ويتركها بعد ذلك يقول: [ أعتذر إليك إني ما تركتك إلا ملل ]، وسيعود بوجبة أخرى، ثم هداه الله تعالى إلى الإسلام فذهب بصرها لما أسلمت، قالوا ماذا؟ هذا دليل ذهب بصرها؛ لأن دليل على أن الإسلام ليس خيراً؛ ولذلك عميت لما أسلمت، وهذا نوع من توظيف الأقدار العادية لمبادئ اعتقادية فاسدة، وكثيراً ما يقع في مجتمعاتنا إذا اختلف شخص مع آخر، وحصل له حادث سيارة، أو انكسار في تجارته، أو مرض، قالوا: بسبب الحاجة الفلانية، (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ))[الزخرف:32].أذكر لما عندنا في قبل سنوات مدارس البنات كانوا يحرمونها، وأحد طلبة العلم ذهب إلى الرياض يطالب بمدارس البنات، وأنه ينبغي أن تفتح، فصار له حادث في الرياض وتوفي رحمه الله، فخصومه صاروا يشيعون أن هذه عقوبة من الله؛ لأنه راح يطالب بمدارس البنات، وهذه القصة تتكرر كثيراً، فهم قالوا: إن زنيرة عميت؛ لأنها أسلمت، لكن الله رد إليها بصرها، فلم يحروا جواباً، فهذا من الاستكبار في الأرض بغير الحق.(( وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ))[الأحقاف:20]، الفسوق أو الفسق هو أعمال الجوارح، وقدم الله الاستكبار؛ لأن ذنوب القلوب أعظم من ذنوب الجوارح، يعني: الحقد، الحسد، التباغض، المعاني القلبية، أيضاً الكبر أعظم من ذنوب الجوارح. إشراقات في قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ...) بعد ذلك ينتقل السياق إلى قصة وهي قصة عاد، وذكر الله تعالى هذه القصة؛ لأن عاداً أول قبيلة عربية أرسل إليهم رسول، ومن هو صاحب عاد الرسول من هو؟ ما اسمه؟ مداخلة: هود .الشيخ: هود ، قوم هود، فعاد كانت قبيلة عربية، يعني: بعد نوح هم أول مجموعة. المقصود بالأخوة في قوله تعالى: (واذكر أخا عاد..) والله سبحانه وتعالى قال: (( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ ))[الأحقاف:21]، يعني: صاحبهم، وسماه أخاً لماذا؟ لأنه من نفس القبيلة ينتمي إليهم في النسب، ولكن هنا سؤال: هل يجوز أن نقول لغير المسلم أنه أخ أو نقول للمسلم: إنه أخ لغير المسلم؟ السياق هنا سماه أخاهم، مع أنهم كافرون وهو نبي، فنقول: إن كان المقصود أخوة الدين، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ))[الحجرات:10]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المسلم أخو المسلم )، فالأخوة الدينية هنا ما تكون ولا تجوز إلا للمسلم، ولا يكون مثلاً اليهودي أو المسيحي أو الوثني أو البوذي لا يكون أخاً للمسلم في الدين؛ فإن الدين فرَق بين الناس.أما إن كان المقصود الأخوة أخوة النسب، حتى لو كان نسباً بعيداً مثل القبيلة مثلاً، أو المجموعة من الناس، أو العرق، فهذا يتوجه كما في هذه الآية ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ))، وأيضاً تطلق الأخوة على ما هو أوسع من مجرد الانتساب، المصاحبة تكون مدعاة أن يسمى أخاً. والله سبحانه وتعالى قال عن لوط قال: (( وَإِخْوَانُ لُوطٍ ))[ق:13]، وكذلك لوط ذكر أنه أخ لقومه مع أنه ليس منهم، فـلوط لم يكن من نفس القبيلة، ومع ذلك سماه الله تعالى أخاً؛ لأنه مصاحب لهم، وكذلك قد يقال: يا أخا العرب! أي: أنه من العرب ولو كان ينتسب إليهم بوجه من الوجوه، وقد يقال: يا أخا العلم! أو يا أخا الكرم! أو يا أخ.. بأي شيء حتى يقولون: يا أخا الجهل! إذا كان ينتسب إلى شيء أو يتعلق به شيء، ومن هنا قال: (( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ ))[الأحقاف:21]. معنى (اذكر) في قوله تعالى: (واذكر أخا عاد..) وقوله سبحانه: (اذكر) تحتمل أن يكون المعنى تذكر فيكون من الذكر، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه قومه؛ أنه يتذكر عاد وهو من العرب وما واجهه من قومه حتى تصبر، ويجوز أن يكون معنى (اذكر) يعني: تكلم وتحدث عن هذا من الذكر لقومك لقريش حتى يكون في ذلك عبرة لهم. موضع الأحقاف والتعريف بها (( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ))[الأحقاف:21]، وهذا الموضع الوحيد الذي ذكر الله تعالى فيه كلمة الأحقاف في القرآن الكريم؛ ولذلك سميت هذه السورة سورة الأحقاف قولاً واحداً، الأحقاف أين هي؟ الأحقاف هي عبارة عن منطقة على القول الراجح الثاني منه، منطقة في جنوب الجزيرة العربية، جزء منها في اليمن ، وجزء منها في عمان ، وجزء منها في المملكة ، مرتبط بـصحراء الربع الخالي ، أنا أخرجت لكم من جوجل إرث لكن الآن ما أدري ترونه أم لا؟ صور الأحقاف صور رائعة وعجيبة؛ في الرمال التي تمتد لمئات الكيلو مترات طولاً وعرضاً في صحراء، هذه ممكن أحد منكم بعدين ينظرها؛ يقدر يراجعها في جوجل إرث أو في أي موقع من المواقع التي عنيت بها منظر رائع جداً، ورسم هندسي بديع للأحقاف.كلمة الأحقاف طبعاً هنا جمع، والمفرد حِقف، والحقف هو ما نسميه نحن بالنفود أو الجبل من الرمل، جبل رملي معوج، يعني: محقوف مثلما نقول: معقوف أيضاً، أحياناً نقول: معقوف يعني: معووج، فكذلك هنا قال: الأحقاف يعني: الرمال المعوجة تجدها هنا، مثلاً انظر الصورة هذه، أيضاً هذه الصور من جوجل إرث، هذه صور أيضاً انظر المنظر البديع هذا صورة من الطبيعة بدون تصرف، هذه هي الأحقاف، أيضاً طبعاً هذا امتداد للأحقاف كما قلت: إنها في اليمن ، وفي عمان غفار وما حولها، وجزء منها ممتد في صحراء الربع الخالي ، والغريب أنه -هذه أيضاً جزء منها-؛ مع كونها رمال طويلة جداً وعريضة بمساحات هائلة وشاسعة، إلا أنه كان فيها عيون؛ بسبب الأمطار التي تنزل من الجبال وتتجه إليها، فيتكون منها واحات، ولكن هذه الأحقاف بطبيعة الحال يقع فيها جفاف في الغالب كما هو شأن الصحراء، ويحتاج أهلها إلى المطر ويعتمدون عليه كثيراً.وذكر الله تعالى قصة عاد أيضاً في مناسبة أخرى في سورة الفجر (( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ))[الفجر:7-8]، هذا اسم قريتهم، ووجدت صوراً أنا لا أستطيع أقول لك: إني متأكد منها لكن صور بديعة أيضاً في الإنترنت قالوا: إنها مأخوذة بأقمار صناعية، فقالوا: إنها كشفت هذه المدينة أنها مطمورة تحت هذه الرمال في صحراء، وحقيقة مدينة في غاية العجب والغرابة في بنائها كما تشاهدونه، وشيء عجيب آية من آيات البناء والمعمار عظيمة جداً، انظر كيف هذه المدينة؛ ولذلك الله سبحانه وتعالى وصفها بقوله ماذا؟ (( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ))[الفجر:7-8]، فهذه مدينة عظيمة جداً في الأحقاف. المقصود بقوله تعالى: (من بين يديه ومن خلفه) قال الله سبحانه وتعالى: (( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ))[الأحقاف:21]، (خلت) يعني: مرت (النذر) الرسل والأنبياء، ((مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ))، العادة أن (من بين يديه ومن خلفه) يعني: من قبله ومن بعده، والذي يظهر لي أن المقصود هنا ((مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ))، المقصود الجانب الجغرافي، يعني من أمامه ومن ورائه، فهناك رسل جاءوا إلى الشام مثلاً، وهناك رسل جاءوا من وراء تلك الأحقاف، فيكون المقصود المكان وليس الزمان، (( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ))، يعني: من أمام تلك المنطقة المسماة بالأحقاف، أو من ورائها، أو يكون المقصود الرسل جاءوا قبله بقليل أو جاءوا بعده مثل ما تقول مثلاً: صالح و شعيب و هود و إبراهيم و نوح وغيرهم. (( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ))[الأحقاف:21]، كل الرسل جاءوا مدار أمرهم على هذا وهو تذكير بالمعركة مع قريش، والدعوة إلى التوحيد.(( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ))[الأحقاف:21]، إذاً الدعوة مبناها على الإشفاق. إشراقات في قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله ...) (( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا ))[الأحقاف:22]، يعني: تلفتنا وتصرفنا عن آلهتنا، (( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ))[الأحقاف:22]، عجل لنا العقاب، وهذا ليس منطقاً سوياً، الاستعجال بالعذاب دون تبصر لم يكن أمراً رشيداً، كان ينبغي أن يتأنوا ولذلك قال لهم: (( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ))[الأحقاف:23]، متى يكون العذاب؟ وما لون هذا العذاب؟ لا أعرفه أنا، وإنما أنا رسول وسيط فقط، (( وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ ))[الأحقاف:23]، وهذا أيضاً من الأدب في الدعوة والصبر، مع أنهم قالوا هذا الكلام البذيء، والاستخفاف والاستهتار، إلا أنه مع ذلك لم يقل: ولكنكم قوم تجهلون، قال: (( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ ))، هذا رأيي.. أرى أن تصرفكم هذا واستعجالكم بالعذاب دليل على الجهل، ولا شك؛ لأن الإنسان العالم والعاقل حتى لو لم يؤمن بالشيء لا يبادر بالرد، وإنما يصبر ويتأنى ويسمع ويقلب الأمر على وجوهه، ويقول: رب اهدني، مثل قال الله سبحانه وتعالى: (( وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ))[الأنفال:32]، المؤمنون قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له، ووفقنا له. ( اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ).((وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ))، لم يقل: ولكنكم، ثم قال: (( أَرَاكُمْ قَوْمًا ))[الأحقاف:23]، أيضاً ما قال: ولكنكم تجهلون، قال: (( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا ))[الأحقاف:23]، إشارة إلى مشكلة كثيراً ما تحصل في الغالب وهي أن المشكلة ليست في الفرد وحده وإنما في المجموع، يعني المجتمع، البيئة، الأصدقاء، مجموعة من الناس، قوم كما سماهم الله تعالى، هنا يتناصرون، ويحرض بعضهم بعضاً، وهذا ما يسمونه بالعقل الجمعي، يعني: كل الناس يتواصون في المجالس، وهذا يوصي وهذا يتكلم، بحيث يصنعون في المجتمع روحاً رافضة لهذا المبدأ، حتى لا يفكر أحد؛ ولذلك الله سبحانه وتعالى قال: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ))[سبأ:46]، يعني: يتخلص الإنسان من ضغط المجتمع، وضغط الأصدقاء، والحصار الذي يفرضه عليه البيئة من حوله، يتخلص من ذلك ويفكر بمفرده، يمكن لو فكر بمفرده عرف الصواب، فهنا قال: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا))، إشارة إلى الروح الجماعية، أو العقل الجمعي الذي يكون سبباً في رفض التجديد، في رفض الحق، ولذلك تجد أن المجتمعات غالباً ترفض التجديد وتقاومه، فإذا كانت السنة والظروف مواتية للتجديد وتقبله بعض الناس شيئاً فشيئاً؛ حتى تحول بعد ذلك إلى أن يكون جزءاً من المجتمع ومن نظام المجتمع ومن روح المجتمع، أصبح الناس يتعصبون لهذا التجديد الذي كانوا يرفضونه بالأمس اليوم أصبحوا يتعصبون له، وربما يرفضون تجديداً آخر يأتيهم، هذه طبيعة في الناس؛ ولذلك قال: (( أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ))[الأحقاف:23]. إشراقات في قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها ...) المقصود بالعارض في قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً..) قال الله سبحانه وتعالى: (( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ))[الأحقاف:24] سحاب، هم في حالة عطش وقحط وجدب ينتظرون المطر، فأبصروا عارضاً في السماء شيئاً معترضاً مثل السحاب، (( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ))، دليل على أن عندهم أودية للزرع، قالوا: (( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ))[الأحقاف:24]، هذا المطر. حقيقة الريح في قوله تعالى: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) قال الله عز وجل: (( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ))[الأحقاف:24]، وقد يكون هذا من قول هود ، أو من قول بعض العقلاء وأصحاب الخبرة الذين يعرفون أن هذا ليس بمنظر سحاب، ولا لون السحاب، هو شيء آخر، الله سبحانه وتعالى قال: ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ))، العذاب الذي تقولون: (( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ))[الأحقاف:22].(( رِيحٌ ))، إذاً هي ريح وكأنها ريح رملية، هناك عواصف رملية شديدة؛ لأن المنطقة رملية، وهذه العواصف يبدو أنها أخذت أكواماً هائلة، وأيضاً موجود في الإنترنت صور للعواصف الرملية حبذا أن تشاهدوها، فهي صور مرعبة ومخيفة جداً، تصنع شيئاً مثل السحاب فوق الناس ولكنه من الرمل الذي تحمله الريح.(( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ))[الأحقاف:24-25]. معنى (كل) في قوله تعالى: (تدمر كل شيء) (( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ))، وهنا ليس المقصود كل شيء الإطلاق؛ لأنها لم تدمر الأرض ولا السماء، وحتى مساكنهم لم يتم تدميرها بشكل نهائي؛ لأنه تعالى قال: (( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ))[الأحقاف:25]، وإنما المقصود تدمر كثيراً من الأشياء، وخاصةً البشر الذين هم محل التدمير، وما أشبه ذلك مثل النخل والأشجار وما شابه ذلك، فهذا الذي يقع له التدمير؛ ولذلك في القرآن الله سبحانه وتعالى أيضاً في أكثر من موضع يذكر (كل) بمعنى غالب أو بمعنى كثير من الأشياء، كما في قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ))[يونس:96-97]، يعني: ولو جاءتهم كثير من الآيات، ليس المقصود ضرورة كل آية؛ لأن من الناس من قد يؤمن بمشاهدة بعض الآيات، فقال هنا: (( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ))[الأحقاف:25]، وهذه الريح كم استمرت؟ (( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ))[الحاقة:7]. مداخلة: (( سَبْعَ لَيَالٍ ))[الحاقة:7].الشيخ: (( سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ))[الحاقة:7]، كم ساعة؟ يقول العلماء: استمرت أظن مائة وثمانين ساعة، والعلماء اليوم يقولون: إن أقصى امتداد للريح يصل إلى مائتي ساعة، فسبحان الله! يعني: هم وصلوا إلى قريب من ذروة امتداد الريح واستمرارها. المقصود بــقوله تعالى: (فأصبحوا..) وأوجه القراءات في قوله تعالى (لا يرى ..) ولهذا قال: (( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ))[الأحقاف:25]، ليس المقصود هنا (أصبحوا) يعني الصباح، لا؛ لأن منهم من هلك في الصباح، ومنهم من هلك في المساء، ومنهم من هلك بالليل، وإنما المقصود هنا صاروا؛ لأن أصبح تستخدم في اللغة العربية بمعنى صار، يعني: فصاروا لا يرى أو لا ترى إلا مساكنهم، هلكوا كلهم، والأعجب والأقرب هنا -والله أعلم- أن المساكن أيضاً ليست كلها ترى وإنما ترى رءوس المساكن؛ لأن الريح سفت على هذه المساكن، وغطت كثيراً منها، وغطت هؤلاء الناس، وأصبحت أطراف المساكن ترى من بعيد للناظرين، وكأنك ترى هذا المشهد تستحضره؛ ولذلك في قراءة: (فأصبحوا لا تَرى إلا مساكنهم)، كأنك تراها بالعيان، إن لم تراها بالعيان تراها بالخيال.(( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ المُجْرِمِينَ ))[الأحقاف:25]، يعني: مثل هذا الجزاء، وهذا فيه تعريض بقريش وعدوانهم ورفضهم. إشراقات في قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ...) قال الله سبحانه وتعالى: (( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ ))[الأحقاف:26] يعني: عاد، وكما رأيتم مساكنهم الضخمة، ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ)) أعطيناهم تمكيناً هائلاً (( فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ))[الأحقاف:26]، (إن) نافية بمعنى ما، ولقد مكناهم في شيء ما مكناكم فيه، كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالاً وأولاداً، فكانوا أقوى من قريش في أجسامهم، وفي بنيانهم، وفي قدراتهم وتمكينهم، إذاً القادر عليهم قادر عليكم من باب أولى، (( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ))[الأحقاف:26]، لم نمكنكم فيه.(( وَجَعَلْنَا لَهمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً ))[الأحقاف:26]، يعني: أجسامهم كانت تتميز بالقوة والطول؛ ولذلك ما وجد من القبور القريبة هناك وقد رأيت بعضها يعني تجده طويلاً، القبر طويل وعريض أيضاً ليس قبراً عادياً، كان فيهم طول؛ ولذلك قال الله تعالى: (( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ))[الحاقة:7] إشارة إلى طول أجسامهم. وجه إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة في قوله تعالى: (وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة) هنا قال: (( وَجَعَلْنَا لَهمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً ))[الأحقاف:26]، سبحان الله بدأ بالسمع قال بالمفرد؛ لأنه أول ما يخلق للإنسان في رحم الأم هو السمع قبل البصر، الإنسان يسمع قبل أن يبصر حتى في بطن أمه، ثم يأتي البصر بعد ذلك، وأيضاً السمع مفرد هنا (( وَجَعَلْنَا لَهمْ سَمْعًا ))؛ لأن الإنسان في الغالب لا يسمع إلا صوتاً واحداً، يصعب أن يسمع أصوات متعددة ومختلفة في الوقت ذاته ويعيها، فالغالب أنه يسمع صوتاً واحداً، وأيضاً يسمع من أكثر من جهة، يعني: يسمع كالصوت الذي وراءه، والذي عن يمينه والصوت الذي أمامه، ولذلك جاء السمع مفرداً (( وَجَعَلْنَا لَهمْ سَمْعًا ))، وعملية السمع عملية غير معقدة ولذلك أفردها، بينما الأبصار، قال: (( وَأَبْصَارًا )) بالجمع جمع بصر، إشارة إلى تعدد آلات البصر عند الناس؛ ولأن الإنسان يستطيع أن يرى بالبصر أشياء عديدة في وقت واحد، وأيضاً الرؤية هذه رؤية عجيبة؛ لأنه يرى أول مرة يرى الناس، ثم لما يكرر الرؤية مرة ثانية يقدر يميز ملامحهم، وهذا طويل، وهذا قصير، وهذا أبيض، وهذا أسمر، ثم أيضاً يكرر النظر مرة ثالثة يقول: ألوانهم وهذا عليه غترة، وهذا عليه غترة حمراء، وهذا بدون، وهذا كذا، وهذا كذا، وكل مرة البصر يعطي معلومات جديدة، وأيضاً الظلال والزوايا وغيرها، فهي عملية الإبصار عملية في غاية التعقيد في المخ؛ ولذلك عبر عنها بالجمع، زد على ذلك أن البصر يفقده الإنسان قبل السمع، مثل عندما يموت، أو عندما ينام تلقى الواحد مثلاً لما ينام تغمض عينه، لكن الصوت لو يسمع واحداً يكلمه يفز أم لا؟ يصحي، وكذلك أصحاب الكهف ذكر الله تعالى هذا المعنى.إذاً هنا السمع بدأ به لهذه الاعتبارات وأفردها، وثنى بالبصر وجمعه قال: (( وَأَبْصَارًا ))، زد على ذلك أن السمع من الأعضاء التي لا يستطيع الإنسان أن يوقف السمع فيها إلا إذا وضع في أذنيه شيئاً، أما البصر فإن الإنسان يستطيع أن يغمض أذنيه فلا يرى ما أمامه. المراد بالأفئدة في قوله تعالى: (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) (( وَأَفْئِدَةً ))، والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب أو العقل، أو جزء من مهمة المخ، وبالذات ما يتعلق بالعواطف والمشاعر، والأحاسيس والذكريات، كأن هذه مرتبطة بالفؤاد، (( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ))[القصص:10]، وقد يطلق على القلب كله، والعقل يطلق عليه الفؤاد، وهنا قال: (( وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ))[الأحقاف:26]، يعني: هؤلاء الناس الذين جعل الله تعالى لهم ذلك ومكنهم منه، وأعطاهم أكثر من غيرهم مع ذلك لم يغن ذلك عنهم، (( مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ))[الأحقاف:26]، (حاق بهم)، أي: نزل بهم وأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به. إشراقات في قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) فهذه قصة عاد، وفيها عبرة، وفيها تذكير لقريش؛ ولذلك الله سبحانه وتعالى قال: (( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى ))[الأحقاف:27]، عقب على ذلك بالخطاب لقريش أنه نحن أهلكنا ما حولكم من القرى مثلما قال: (( النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ))[الأحقاف:21]، وقلنا: إن هذا كأنه يتعلق بالمكان وليس بالزمان، كذلك هنا (ما حولكم) يعني: في الأمكنة، فمن جنوبكم يا أهل مكة أهلك الله تعالى الأحقاف، وهي منطقة في اليمن ، ومن شمالكم يا أهل مكة أهلك الله تعالى قرى الشام مثل قرى سدوم، وقوم لوط وغيرها وهي أيضاً بـالشام ، وسبحان الله التاريخ يعيد نفسه، نحن نرى اليوم حريقاً في اليمن ، ونرى حريقاً آخر أين؟ مداخلة: في الشام .الشيخ: في الشام ، والقرآن يقول لنا: (( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ ))[الأحقاف:27] دعوة إلى المراجعة، دعوة إلى التصحيح، وأنه ليس أحد من البشر بينه وبين الله تعالى نسب ولا سبب، وسنة الله تعالى تمضي على الجميع، إلا من استطاع ووفقه الله أن يستدرك، وأن يصحح، وأن يصلح، وأن يحاول إزالة أسباب وعوامل الهلاك التي ذكرها الله عز وجل، فهذا هو الذي يكون بمنجاة، فالآية هنا ماضية، (( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ))، التصريف هنا تصريف الآيات أحياناً يكون بالتهديد بالعذاب، وأحياناً يكون بالتهديد بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وأحياناً يكون بالتذكير بالله سبحانه وتعالى، وأحياناً يكون التذكير بالنعم، وأحياناً بنزول بعض ألوان العذاب، (( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ ))[السجدة:21]، فتكون بعض النوازل التي تقع للمجتمعات، من مصائب مفردة ومتفرقة هنا وهنا وهنا يكون فيها دعوة للناس إلى أن يستيقظوا ويتداركوا قبل أن ينزل عليهم العذاب العام الطام الذي لا يمكن استدراكه. إشراقات في قوله تعالى: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) (( فَلَوْلا نَصَرَهُمُ ))[الأحقاف:28]، هلا نصرهم، هل نصرهم الذين اتخذوهم من دون الله قرباناً آلهة؟ هل نصروهم؟ لولا نصروهم، يعني: لماذا لم ينصروهم؟ هم لم ينصروهم، وقفوا موقف المتفرج، وهذا دليل على أنهم لا ينفعون ولا يضرون، قال الله عز وجل: (( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ))[الأحقاف:28]، تركوهم وأهملوهم، (( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ))[الحشر:16]، وربما نجد مثالاً لهذا أن كثيراً من الدول التي كانت تظلم شعوبها معتمدةً على دعم من الغرب، وعلى تقنية للتعذيب والتصنت وظلم الشعوب واضطهادها من الغرب، مثلما كان وجد أن هناك أجهزة من فرنسا كانت في طريقها إلى تونس قبل أن يجري لها ما جرى، ووقعت الواقعة ورجعت هذه الأجهزة من حيث أتت، فهؤلاء الناس هم يبحثون عن مصالحهم، ولذلك سرعان ما يتخلون عن صديقهم إذا وجدوا أنه لا يخدمهم، أو أن مصلحتهم مع غيره؛ ولهذا هنا قال: ((بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ))، (( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ))[الحشر:16].(( وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ))[الأحقاف:28]، يعني: ذلك الصدود والإهمال هو الإفك؛ لأنهم كانوا يقولون قولاً ليس صواباً في شأن هؤلاء أو في شأن هذه الأصنام، ويفترون ما لا حقيقة له. إشراقات في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن...) هنا أيضاً الله سبحانه وتعالى ذكر الجن قبل قليل (( مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ))[الأحقاف:18]، وفي جو قريش كانت تكفر فيه برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا تؤمن به، فكان هناك مناسبة لطيفة وبشرى وتصبير أن الله تعالى يسوق أناساً من الجن ليسمعوا القرآن، ويكون موقفهم مخالفاً لموقف قريش. سماع الجن للقرآن ليس قصداً وإنما اتفاقاً (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ ))[الأحقاف:29]، اذكر إذ صرفنا إليك، إذاً الصرف هنا بإرادة الله، هم لقوه اتفاقاً؛ ولذلك يقال: إن الجن هؤلاء كانوا في بطن نخلة وهو مكان بين مكة و الطائف ، أو مكان آخر قرب مكة ، ويقال: إنهم من جن نصيبين، وكان قد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فذهبوا في كل مكان يبحثون ما هو الشيء الجديد الطارئ في الأرض، يمكن فيه نبوة أو..؛ لأن عندهم خبر من النبوة، فهؤلاء النفر من الجن، النفر يعني ثلاثة إلى تسعة وهو في الأصل يطلق على الناس، ولكن استعير هنا للجن يعني ثلاثة إلى تسعة من الجن، فهؤلاء الجن صرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صرفاً قصداً، يعني: وإن كانوا لقوه في بطن نخلة وهو يصلي الفجر ويقرأ، ولذلك في حديث ابن عباس : ( أن النبي عليه السلام لم يعلم بهم )، استمعوا ورجعوا وهو لم يعلم بهم، بينما في حديث ابن مسعود : ( أن النبي عليه السلام علم بهم، وخاطبهم وخاطبوه، وسألوه وأجابهم )، فهذا الله أعلم به، المهم هؤلاء الجن صرفوا قصداً بإذن الله تعالى كنوع من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام. وقوع التكليف على الجن كالإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي (( نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ))[الأحقاف:29]، وأصل الرسالة للإنس (يا بني آدم)، هذا أصل الرسالة، وللناس (يا أيها الناس)، هذا أيضاً دعوة القرآن؛ ولذلك الحديث عن الجن هو حديث استثنائي حديث عارض، وأكثر العلماء يقولون: إن الجن مطلوب منهم الإيمان؛ بما بلغهم من الإيمان بالله ورسله، لكن التكاليف ليسوا أهلاً لها، وليسوا مكلفين مثل تكليف الإنس، واختلف العلماء أيضاً في الآخرة؛ هل يحاسبون ثم يقال لهم كما يقال للبهائم: كوني تراباً، أو أنهم ينعمون ويعذبون ويدخلون الجنة؟ طبعاً يدخلون النار كما في القرآن الكريم: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ ))[الأعراف:38]، ولكن الجنة هل ينعمون فيها؟ أبو حنيفة رحمه الله يرى أنهم لا ينعمون في الجنة، وإنما يكتفى بعدم تعذيبهم في النار، والأكثرون يقولون: إنهم ينعمون ويعذبون، مثلهم مثل الإنس. المبالغة في شأن الجن والإكثار من القصص والروايات المكذوبة عنهم قضية الجن قضية فيها كثير من اللبس، في القرآن الكريم هذا الموضع، والموضع الآخر: (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ))[الجن:1]، وهناك كلام عن الجن في مواضع كثيرة جداً، منها قوله: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))[الذاريات:56] إشارة إلى أنه مطلوب منهم عبادته بالإيمان به بقدر ما بلغهم، ولكن الجن أيضاً المعلومات شحيحة فيما سوى ذلك لا يعلم كثيراً من أمورهم إلا الله، وهذا الشح في المعلومات جعل هناك توسعاً في المخيال الشعبي في كثير من القصص والأخبار عن الجن، وأوجد في بعض كتب التراث أيضاً روايات، حتى أنه في بعض الكتب وحتى في بعض التفاسير قد يسوقونها في تفسير القرآن ( أن النبي عليه السلام -حديث أنس يزعمون وهو كذب- أنه لقي رجلاً يتوكأ فقال: هذا شأنه من الجن، وسأله فإذا الرجل هذا من عهد آدم ، وقال: إن عيسى سلمت عليه، و موسى يبلغونك السلام -وما أدري ماذا- وقالوا: إنه سأل النبي عليه السلام أسئلة وقال له: تطلب شيئاً؟ فقال الجني قال: يا رسول الله أطلب أن علمني موسى التوراة ، وعلمني عيسى الإنجيل، وأريد أن أتعلم منك القرآن، فلقنه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن )، وقالوا: مات النبي عليه السلام ولم ينعه، ما نعاه، دليل أنه حي وممكن يكون موجوداً إلى اليوم بعد، هذا النوع من الروايات السخيفة؛ لا يجوز أن يساق في مساق الاستدلال بالقرآن الكريم، وكتب التفسير؛ لأن كثيراً من الناس لا يميزون، وأيضاً إيراده دون نقد ودون فحص خطأ كبير، والناس يتفننون في هذا، يوجد كتاب فيه روايات -لا أقول: في الكتاب شيء- اسمه آكام المرجان في أحكام الجان للشبلي ، يعني: من الكتب التي جمعت روايات كثيرة من الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، ولكن الناس دائماً عندهم مبالغة، وعندهم حالة من الرعب والخوف من الجن، مع أن الإنس أقوى من الجن وأكثر تمكناً، ومسئولون عن الجن، نحن ما نعرف عنهم شيئاً إلا ما أخبرنا الله عنه، ولا كثير من التفاصيل الشائعة عند العوام تجد لا دليل عليها من الكتاب ولا من السنة، وبعض الأشياء تظن أن لها أصلاً، ولكن هناك مبالغة، فأقول: إن الجن في كثير من الأحيان مظلومون، نعم مظلومون؛ لأن كل من مرض عندنا حتى لو كان مرضه مشخصاً طبياً في مختبر بمرض معروف ومحدد، قالوا: والله هذا فيه مس، وفيه جن، وأحياناً.. حتى مرة واحد يقول: إذا أتونا أي راقٍ من الرقاة؛ إذا جاءه مريض قال له: عندك جني، أي واحد يجيء لو كان صحيحاً قال: عندك جني، ويخيل إليه أن الجني هذا يتحرك في بدنه ويمشي في عروقه، ويبدأ يحس أنه خدرت يده، وأنه الآن نزل تحت، وأحياناً من أين يخرج من الإصبع وإلا من الإبهام.. يعني فيه تفاصيل كثيرة جداً لا يوجد عليها دليل من الكتاب ولا من السنة، ويبالغ الناس في تصويرها، حتى أنه لا يكاد يوجد مرض، بل أكثر من ذلك لا يكاد يوجد مشكلة، مشكلة بين زوجين، أو تأخر الإنسان في دراسته، أو وجود نوع من الخلل في تجارته، أو قضية بين اثنين، أو أصدقاء إلا وكثيراً ما نجر الجن ونقحمهم المساكين في هذه القضية دون دليل، حقيقةً هذا ترى من الجهل ومن الغفلة التي ينبغي أن نتفطن لها، وألا نستجب لها.صراحةً أنا في بعض الأحيان أسكت عن ذلك في بعض الحالات؛ لأنني أحس بأن صاحب القصة نفسه يريد أن يتخلى عن المسئولية، أو بدلاً مما يحرج أمام الناس بشيء يحط القصة أنه عين أو جن أو سحر؛ حتى لا يكون عليه تبعة لماذا حصل مثلاً الفساد؟ أو لماذا حصل الانفصال أو الخلل أو الفشل، التأخر الدراسي؟ فيربط الإنسان هذا بهذه الأشياء التي إثباتها صعب، طبعاً الجن حق، والعين حق، والسحر أيضاً ثابت من حيث أصله، ولكن القول: بأن القصة هذه قصة جني، أو قصة سحر، أو قصة عين، بهذه القصة بذاتها من خلال حكاية، أو من خلال رؤيا، أو من خلال تشخيص غير دقيق، وكثير من الرقاة كثير لا أقول: كل، كثير من الرقاة ليس عندهم علم ولا فقه ولا رزانة، ولذلك عندهم تسرع في الأحكام، وربما يدخل عليهم الصحيح فيمرضونه، ولا يعرفون كثيراً من العلوم الحديثة، علم النفس اليوم علم كبير وعظيم وفيه ألوان من الأعراض التي تتشابه مع أعراض المس، فيقع اللبس بسبب ذلك عند كثير من الناس وكثير من الرقاة.المهم أن الجن حق، وهو عالم لا نعلم عنه إلا ما أخبرنا الله؛ ولذلك ينبغي أن نقتصر على الوارد، والعجيب أن بعض الإخوة ربما يكون دقيقاً في كثير من المسائل ويقول: لا نقول إلا ما قال الله ورسوله، فإذا جاء مثل هذه القضية دخل فيها مع القرآن، ومع السنة الصحيحة دخل فيها روايات، ودخل فيها أقاويل وسواليف وقصص وخيالات، وكلام عوام، وأمور ليس لها أصل وليس عليها دليل، فالله سبحانه وتعالى ذكر لنا هذا المعنى فنقتصر عليه. هؤلاء الجن يستمعون القرآن، صرفهم الله، إذاً الصرف مقصود، وقال: (( يَسْتَمِعُونَ ))[الأحقاف:29] لم يقل: يسمعون؛ لأن السمع من غير قصد، مثل واقف عند الإشارة تسمع واحد مثلاً عنده قرآن في السيارة إلى جوارك تقول: هذا يسمع القرآن، أما يستمع معناه أنه وضع أذنه، وتهيأ للاستماع؛ لأنهم يبحثون، شيء غريب! صوت غريب! نغمة غريبة! معنى غريب! إنصات الجن للقرآن وإسكات بعضهم بعضا ((فَلَمَّا حَضَرُوهُ)) حضروا القرآن، ((قَالُوا أَنْصِتُوا)) بعضهم يقول لبعض: أنصتوا صه اسكتوا اسكتوا، بعضهم يسكت بعضاً يمكن بالكلام ويمكن بالإشارة؛ لأنه لو كان بالكلام معناه تحولت إلى فوضى، مثل الطلاب بالفصل كل طالب يقول: اسكت اسكت اسكت أنت، تصير فوضى، فالأقرب أنهم إما واحد منهم قال: أنصتوا، أو أنهم أشار بعضهم إلى بعض أن اسكتوا، وكونه (قالوا) (( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ))[الأحقاف:29]، الله سبحانه وتعالى حكى لنا قولهم باللغة العربية، ولكن لا يعني هذا أنهم كانوا يتكلمون اللغة العربية، وإنما الله تعالى حكى لنا معنى ما قالوا، مثلما حكى الله لنا أقوال الأمم السابقة كلهم بمختلف لغاتهم، وأقوال أهل الدنيا، وأهل الآخرة، وأهل السماء وأهل الأرض، فذلك أن الله تعالى حكى وبين لنا معنى ما قالوا باللسان العربي المبين. ليس من شروط الدعوة أن يكون الإنسان كامل الأوصاف (( فَلَمَّا قُضِيَ ))، انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته، وقد سخره سبحانه، الذي صرف إليه هؤلاء الجن يستمعون؛ سخره ليقرأ من القرآن آيات عامة عظيمة مثل سورة الفاتحة، أو سورة الإخلاص، أو غيرها من المعاني العظيمة التي تشرح أصول الدعوة والإيمان، (( فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ))[الأحقاف:29]، رجعوا، وقوله: (ولوا) يدل على السرعة، وهذا فيه عجب وفيه درس؛ أن هؤلاء الناس حضروا جلسة واحدة، ربما سمعوا فيها بضع آيات من كتاب الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمجرد ذلك انفتحت قلوبهم للإيمان، وليس فقط أنهم أصبحوا مؤمنين مسلمين؛ بل أكثر من ذلك أنهم صاروا منذرين يعني: دعاة مرشدين مبلغين موجهين، ولذلك يسمون مبلغين، بينما تجد كثيراً من المؤمنين والمسلمين من الإنس الذين فضلهم الله ربما يقضي سنوات طويلة جداً في خير، ومجالس ذكر ومجالس علم وفلان هو فلان، يكبر جسمه الشيء الذي يتقدم فيه فقط هو العمر، أما العقل والفهم والإدراك والبصيرة والمسئولية والأخلاق فهو باق بحاله، فهذه مشكلة، هؤلاء الناس حضروا هذه الجلسة، وبمجرد هذه الجلسة تحولوا إلى منذرين؛ ولذلك ينبغي أن نكون نحن منذرين دعاة مبلغين، ولا نظن أن الدعوة من شروطها أن يكون الإنسان مثلاً كامل الأوصاف، أو كامل المظهر، أو متقدماً في السن، أو حتى ليس عليه نقص، قد يدعو الإنسان وهو مقصر تقصيراً ظاهراً في مظهره وشكله، أو تقصيراً باطناً في مخبره. ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد والعلماء يقولون: واجب على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، يعني: حتى مجموعة مثلاً يدخنون ممكن تقول له: الدخان ما ينفع، أو يشربون تقول له: هذا خطر، أو يتعاطون علاقات محرمة مع البنات، ما في مانع أنه واحد يقول: والله يا ناس ترى أننا ضائعين، أعراض هؤلاء المسلمات، وقد يبتلينا الله فيما بعد، أو يعاقبنا بمرض أو غير ذلك من الأسباب، أو ناس يسافرون إلى غير طاعة، فلا بأس أن يتواصوا بالحق ويتواصوا بالصبر، حتى لو كان عندهم أخطاء، بل حتى لو كانوا مجتمعين على خطأ لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: (( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ))[هود:29]، ولا يكونوا ممن قال الله تعالى: (( بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ))[الأحقاف:20]، فهنا الاستكبار في القلب، والفسق بالجوارح، فحتى لو أن الإنسان عصى بجوارحه يجب ألا يستكبر بقلبه، وإنما ينكسر لربه. دلالة وصف الجن بالنذارة وبيان ما كانوا عليه من دين قبل سماعهم للقرآن (( فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ))[الأحقاف:29]، إذاً المبدأ الأول مبدأ النذارة، أنه ليس فقط مؤمنين، وإنما منذرون مستوى أعلى، وهذا يدعونا إلى ذلك؛ ولذلك أدعو إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي إلى استحضار هذا المعنى، البارحة أنا لما انصرفت من الجلسة جاءني رسائل من عدد من الشباب والبنات يقولون: إنهم حضروا هنا، (( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ))[الأحقاف:29]، لكن ليسوا من الجن، من الإنس، ويشكرون ويقدمون ملاحظات، أنا أطلب منكم يا إخواني أن تتواصلوا معي أيضاً وخاصةً الشباب؛ بالرسائل الجوال حتى نتعارف وحتى نتعاون وحتى نقتدي أيضاً.هنا قال: (( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ))[الأحقاف:29]، أيضاً كأن الصفة هنا أنهم تعاونوا على هذا المعنى، لم يكن واحد منهم وإنما كانوا بمجموعهم يقومون بهذا المبدأ؛ ولذلك (( قَالُوا يَا قَوْمَنَا ))[الأحقاف:30] كأنهم قالوا بلسان واحد، ربما يكون قالها واحد منهم وأيده الآخرون، أو تعاونوا كلهم عليه.(( يَا قَوْمَنَا إِنَّا ))[الأحقاف:30]، (يا قومنا) هنا فيه تحبب أنه أنتم جماعتنا وأنتم أصحابنا.(( إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا ))[الأحقاف:30]، هذا الذي حال بين الشياطين وبين خبر السماء الذي كانوا يسترقون السمع، (( سَمِعْنَا كِتَابًا ))، وعرفوا أنه كتاب، هذا غريب أيضاً من فقههم، هم سمعوا مقطعاً مثلاً من القرآن، لكن أدركوا أن هذا جزء من كل، وسمعوا بعضه، كما تقول: شربت الماء وأنت ما شربت البحر وإنما شربت جغمةً من الماء. (( سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ))[الأحقاف:30]، إذاً هم يعرفون موسى ، لماذا ما ذكروا عيسى ؟ يمكن كانوا يهوداً أو لا؟ ممكن، بعضهم قالوا: كانوا يهوداً، وهذا لا يلزم، نقول: إما أنهم كانوا يهوداً أو على الأقل هم سمعوا بـموسى ولكن ما سمعوا بـعيسى . القرآن لم يأت لينسخ وإنما جاء ليصدق ويعزز ما جاء به الأنبياء والمرسلون (( كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ))[الأحقاف:30]، وهذا غريب، قوله: (( مِنْ بَعْدِ مُوسَى )) مرتبط بقوله في أول السورة: (( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ))[الأحقاف:10]، فهنا قال: (( مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ))، يعني: هذا الكتاب لم يأت لينسخ وإنما جاء بالدرجة الأولى ليصدق ويعزز ما جاء به الأنبياء والمرسلون، ثم لينسخ بعض الأشياء التي فيها آصار وأغلال، أو تصلح لوقت ولا تصلح لكل وقت، وتصلح لقوم ولا تصلح لكل الناس، فهو مصدق ومؤيد؛ مما يدعو الآخرين إلى الإيمان به، (( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ))، والغريب أنك تجد اليوم القسس والرهبان من المسيحيين، ومن اليهود ، كثيراً ما يكفرون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتجون بحجج مثل قضية الجهاد مثلاً، أو قضية المرأة وأحكام المرأة، أو أشياء من هذا القبيل وهي موجودة في كتبهم، وموجودة عند أنبيائهم، ولا ينكرونها، حتى إني أذكر مرة واحد أوروبي جاء وقابلني وسألني عن حكم الإسلام في الرجم، فجلست أكلمه طويلاً، وقلت: إن هذا موجود في شريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن الإسلام وضع ضوابط شديدة لا تكاد تتحقق أبداً؛ إلا في أناس يرتكبون الفاحشة على قارعة الطريق غير مبالين بالآخرين، وأن هناك ضمانات كبيرة جداً، وهذا الحد في الأعم الأغلب هو للزجر والتوبيخ وتحذير الناس من الفعل، وتحذيرهم من المجاهرة أكثر منه للمتابعة والملاحقة، حتى أن من يستتر يستر الله عليه، بل الإسلام يحرض على الستر، يحرض الإنسان على الستر حتى لو أخطأ، ففي النهاية قال لي وهو من التلفزيون الاتحاد الأوروبي قال: أنا أقول لك بصراحة: إنني لو سألت بابا الفاتيكان لا يستطيع أن يجيبني بأكثر من هذا الكلام. المقصود بالحق في قوله تعالى: (مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق) فهذا أن القرآن (( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ))[الأحقاف:30]، فكأن المقصود بالحق هنا الاعتقادات الصحيحة المبنية على الصواب، والطريق المستقيم السلوك، مثل قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[فصلت:30]، (ربنا الله) هذا الحق، (ثم استقاموا) هذا الطريق المستقيم، ولذلك قال: (استقاموا) يعني: على هذا الطريق، إذاً هما مسئوليتان: المسئولية الأولى: الاعتقاد السليم الموافق للحق والمطابق.القضية الثانية: هي العمل والفعل وهو الطريق المستقيم كما قال: (( بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ))[الفتح:28]، الهدى هو المعلومات الصحيحة والإيمان بها، ودين الحق هو الفعل الصحيح.