ÇáÑÆíÓÉ ›دروس›إشراقات قرآنية›جزء تبارك›سورة المعارج سورة المعارج الاثنين 5 رمضان 1436هـ طباعة د. سلمان العودة 7231 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص بين يدي سورة المعارج اسمها وعدد آياتها ومكان نزولها بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، المنان، بديع السماوات والأرض، ذي الجلال والإكرام، لا إله إلا هو الحي القيوم.سورة المعارج هي إحدى سور هذا الكتاب العظيم، وهي المفتتحة بقوله سبحانه: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ))[المعارج:1]. واسمها سورة: (سأل سائل) كما في كتب السنن كـالبخاري و الترمذي ، وكما في كتب التفسير كـالطبري و ابن كثير و ابن عطية وغيرهم.ومن أسمائها أيضاً: سورة المعارج كما هو في معظم المصاحف؛ لذكر المعارج فيها: ((مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:3]، ولأن هذا الاسم أسهل وأخف، وقد تختصر فيقال: سورة (سأل)، خاصة وأنه ليس في القرآن الكريم من السور المفتتحة بفعل (سأل) إلا هي، فهذا الاسم يخصها دون سواها. وهي سورة مكية باتفاق أهل العلم وأهل التفسير. وعدد آياتها أربع وأربعون آية. إشراقات في قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) يفتتح الله عز وجل هذه السورة بقوله: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ))[المعارج:1]. ومعنى الآية: أن داعياً دعا وسأل واستعجل العذاب الواقع. بيان ما تضمنه قوله تعالى (سأل سائل بعذاب) إذاً: ((سَأَلَ سَائِلٌ)) فيها ثلاثة معان:فيها أولاً: السؤال، أن هذا الإنسان سأل عن العذاب، لكن أنت تلاحظ -أيضاً- أن الله سبحانه وتعالى لم يقل: سأل سائل عن العذاب، وإنما قال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب))[المعارج:1]، فهذا يدل على أن (سأل) ليست مجرد سؤال عفوي أو بريء، وإنما هو سؤال مقرون بالاستعجال، مقرون بالاستهزاء، ولهذا ورد أن هذا السائل هو النضر بن الحارث ، وكان يقول: إن محمداً يهددنا بالعذاب، فلماذا ننتظره؟! وكان يقول كما حكى الله عز وجل: ((وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))[الأنفال:32]. فيستعجلون العذاب.إذً: ((سَأَلَ سَائِلٌ))[المعارج:1] استعجل مستعجل بهذا العذاب. وقد حكى الله تعالى عنهم في مواقع عديدة من القرآن الكريم أنهم يستعجلون العذاب: ((يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ))[الشورى:18]، ولاحظ التوافق ((يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا))[الشورى:18]، أما المؤمنون فهم ((مُشْفِقُونَ مِنْهَا))[الشورى:18]، كما في سورة (سأل)، افتتح السورة الكريمة بقوله سبحانه: ((سَأَلَ سَائِلٌ))[المعارج:1]، وبعد قليل قال: ((وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ))[المعارج:27]، فأثنى على المؤمنين الذين يخافون ولا يستعجلون العذاب، ويدرون أن العذاب عند الله سبحانه وتعالى، فيطلبون الإمهال والإنظار والمغفرة.ومن معاني (سأل) أيضاً: أنه دعا به، يعني: دعا على نفسه بالعذاب: ((فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ))[الأنفال:32]، وكثيراً ما يدعون على أنفسهم بالعذاب استهزاءً وسخرية.إذاً: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ))[المعارج:1] كما كان يقول الشاعر عبدة الطبيب يقول:فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيبإذا شاب شعر المرء أو قل ماله فليس له من ودهن نصيب يردن ثراء المال أنى وجدنه وشرخ الشباب عندهن عجيب فإن تسألوني بالنساء: يعني: عن النساء. فهذا السائل -إذاً-: هو أولاً: سأل، بمعنى أنه استفسر واستفهم، وقال: متى العذاب؟ وكثيراً ما يقولون: متى؟ ((وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا))[الإسراء:51]، سأل.وأيضاً: استعجل، يقول: أبطأ وتأخر علينا، عجلوا به.وثالثاً: دعا على نفسه وعلى من معه بالعذاب، فكل هذا تضمنته كلمة ((سَأَلَ سَائِلٌ))[المعارج:1]، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى من هذا السائل، ولكنه أصبح معروفاً، أنه إما النضر بن الحارث أو غيره من علية الملأ من قريش. بيان وجه انتفاء كون النبي صلى الله عليه وسلم المقصود بسائل العذاب وليس المقصود -والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سأل، يعني: استعجل العذاب على هؤلاء المشركين، فهذا بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب إمهالهم وإنظارهم وألا يعاجلوا، ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ولما عرض عليه الملك يوم العقبة (أن أطبق عليهم الأخشبين، قال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً).أما ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أبطأت عليه قريش وتأخرت قال: (اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف)، سبع سنين، فأصابتهم مجاعة حتى كانوا يرون ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان من الجوع، وحتى أكلوا أوراق الشجر والعظام من الجوع، وقالوا: ((رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ))[الدخان:12]؛ فهذا ليس المقصود به العذاب الذي يقع، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكون عليهم هذه الشدة التي تفتح قلوبهم للإيمان والإسلام، هذا هو الظاهر من السياق، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النظرة والإمهال لهؤلاء القوم، لعل الله أن يهديهم. تحقق وقوع العذاب على المشركين ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ))[المعارج:1]، سأل مستبعداً مستعجلاً مستهزئاً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى لم يُنهِ الآية ذاتها إلا بقوله: ((وَاقِعٍ))[المعارج:1]، ولهذا سمى بعض المفسرين هذه السورة سورة الواقع؛ لأن العذاب واقع، فالله سبحانه وتعالى قال: ((بِعَذَابٍ وَاقِعٍ))[المعارج:1]، يعني: عذاب آت لا محالة، استعجلوا أو استبطئوا، فهذا العذاب آت؛ لأنه مكتوب عند الله سبحانه وتعالى، فهذا العذاب هو عذاب واقع لا مرية فيه. إشراقات في قوله تعالى: (للكافرين ليس له دافع) قال سبحانه: ((لِلْكَافِرينَ))[المعارج:2]، يعني: عذاب للكافرين. فالمقصود بهذا العذاب الكافرون المصرون المعاندون، فسبب عقوبتهم الكفر، ولكن قد يصيب هذا العذاب غيرهم تبعاً، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الضعفاء والصبيان والأسواق ومن ليس منهم إذا نزل العذاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يصيبهم العذاب كلهم ثم يبعثون على نياته)، وهكذا في قصة نوح عليه الصلاة والسلام، وقد عرفناها فيما سبق، وكيف أن نوحاً دعا على قومه فأنزل الله تعالى عليهم العذاب كلهم وعمهم، قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى جعل قوم نوح لا يولد لهم مدة أربعين سنة قبل أن ينزل بهم العذاب، فلا يعذب منهم إلا البالغون الذين قامت عليهم الحجة وأصروا على الكفر، وهذا -وإن كان له وجه- إلا أنه لا دليل صريحاً عليه.وقد مضت سنة الله سبحانه وتعالى أنه إذا عذب قوماً أخذهم كلهم، ثم يردون مورداً واحداً ويصدرون مصادر شتى، وقد يعم من ليس منهم، فهذا أمر عام، بل قد جاء فيه نصوص وأحاديث.فهنا الله سبحانه وتعالى قال: ((لِلْكَافِرينَ))[المعارج:2]، يعني: أن هذا العذاب موجه لهم، هو عذاب لهم، هو عذاب واقع، وهو عذاب لهم يعذبون به. معنى قوله تعالى (ليس له دافع) قال سبحانه: ((لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ))[المعارج:2]، بعذاب للكافرين واقع ((لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ))[المعارج:2]، فإذا وقع هذا العذاب فإنه لا يدفعه أحد قط، فهذا العذاب -سواء كان عذاباً دنيوياً، كما عذب الله بعضهم بالصيحة أو بالزلزال أو بغيرها أو بالطوفان- فإن هذا العذاب إذا نزل ووقع فإنه لا يرفع، كما قال ربنا سبحانه: ((فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا))[يونس:98]، لأنهم آمنوا قبل انعقاد العذاب، ((كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ))[يونس:98]، أما إذا نزل العذاب فإنه لا يرفع عنهم، وإن كان المقصود عذاب الآخرة فهو أيضاً من باب الأولى أنه لا يدفعه أحد عنهم. ((بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ))[المعارج:1-2]. إشراقات في قوله تعالى: (من الله ذي المعارج) ((مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:3]، ومن الواضح في صدر هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى يبين صفات المكذبين وما جبلوا عليه من الاستعجال ومن الاستهزاء ومن السخرية ومن اللامبالاة، قلة المبالاة، وما يجب أن يكون عليه الإنسان المؤمن من الخوف واليقظة وحسن الخلق مع الله ومع عباده، فحذرهم في البداية من مثل هذا السؤال، وهذا التعامل مع قضايا الغيب وقضايا الآخرة، ولهذا قال: ((مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:3]، يعني: هذا العذاب هو عذاب للكافرين من الله، قد يكون هذا هو نظم الآية وترتيبها، العذاب للكافرين، وهو من الله سبحانه وتعالى، ولهذا ليس له دافع.((مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:3] صاحب المعارج، وقد جاء في سورة أخرى أن الله سبحانه وتعالى قال: ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ))[غافر:15]. إذاً: المعارج جمع معرج أو معراج، ومنه المعراج أيضاً، وهو عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما هو معروف. معنى قوله تعالى (ذي المعارج) ودلالته فقوله: ((مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:3]، يعني: صاحب المعارج، وهذا يشمل الإقرار والتأكيد على علو الله سبحانه وتعالى وفوقيته، ولهذا قال: ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْش))[غافر:15]، وقد ورد في سبعة مواضع في القرآن الكريم لفظ: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]. إشارة إلى علو الله تعالى على خلقه، ولهذا من أسمائه العلي، ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[البقرة:255]، وذكر الله عز وجل صعود الملائكة ونزولهم ونزول الوحي، مما يدل على علو الله تعالى على خلقه، وهو علو بذاته، علو ذاته على خلقه وعلى عرشه، وعلو الصفات، وعلو القدر، كل ذلك له، وعلو القهر والغلبة أيضاً.قال هنا: ((مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:3]. إذاً: ذو الرفعة والعلو. ومن معاني (المعارج) يعني: الطرق والمدارج التي تصعد بها الملائكة إلى السماء، فهي تسمى (المعارج)، كما في قصة المعراج. إذاً: فالمعارج هي طرق صعود الملائكة إلى ربها. إشراقات في قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه ...) معنى عروج الملائكة وبيان المراد بالروح ولهذا قال سبحانه: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ))[المعارج:4]، هذا تفسير المعارج. ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ))[المعارج:4].أما الملائكة فمعروفون، وأما الروح فالأقرب أن المقصود به جبريل عليه الصلاة والسلام، وإنما خصه من بين الملائكة لمنزلته، كما قال سبحانه: ((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ))[القدر:4]، ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا))[مريم:17]، فالروح هو جبريل، وهو من الملائكة، وإنما خصه لعظمته ومكانته وقدره وفضله، فالملائكة يعرجون إليه سبحانه.وقد يجوز أن يشمل الروح أيضاً أرواح بني آدم، فإن الإنسان فيه روح، وبهذه الروح أصبح حياً، والله عز وجل لما خلق آدم من طين الأرض نفخ فيه من روحه: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي))[الحجر:29]، إذاً: المقصود أيضاً عروج الملائكة، وقد يكون عروجهم بأرواح الناس، كما ورد في قبض أرواح المؤمنين وأنه يعرج بها إلى السماء، وفي حديث البراء عند أبي داود وغيره الإشارة إلى هذا المعنى، إذاً: عروج الملائكة والروح الذي هو جبريل ، ويشمل أيضاً عروج الملائكة بأرواح المؤمنين إذا قبضت.قال: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))[المعارج:4]. دلالة قوله تعالى (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) على تحقق الأمان للأمة من عذاب الاستئصال بالبعثة النبوية ثم قال سبحانه: ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))[المعارج:4]. يجوز أن يكون المعنى: الإشارة إلى عروج الملائكة في هذا اليوم، أو يكون المعنى: العذاب الواقع للكافرين هو ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))[المعارج:4]، وهذا إشارة إلى أن الله تعالى بالنسبة لهذه الأمة وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلط على الأمم عذاب الاستئصال، أما الأمم السابقة كأمة نوح و هود و شعيب و صالح وغيرهم من المكذبين فكان الله تعالى يرسل عذاباً يستأصلهم عن بكرة أبيهم، يأتي عليهم كلهم جميعاً إذا كفروا وكذبوا، هذا يسمى عذاب الاستئصال، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمنت الأمم من عذاب الاستئصال، وصار يأتيهم عذاب جزئي؛ ولهذا قال ربنا سبحانه: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))[الأنفال:33]، انظر الشرف لمحمد صلى الله عليه وسلم، محمد وجوده عليه الصلاة والسلام أمان لأمم الأرض من العذاب التام المطبق ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))[الأنفال:33]، أيضاً هذا هو الأمان الثاني، رفع الأمان الأول، وهو وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي الأمان الثاني للأمم من العذاب، وهو الاستغفار، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))[الأنفال:33].ثم قال سبحانه: ((وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))[الأنفال:34]. فقال هنا: ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))[المعارج:4]، إذاً: يجوز أن يكون العذاب هو الذي يقع في هذا اليوم، فيكون فيه إشارة إلى أن عذاب الاستئصال والإفناء التام للأمة لا يكون بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يعذبهم بما دون ذلك. المقصود بعروج الملائكة في يوم القيامة ويمكن أيضاً أن يكون المعنى: عروج الملائكة والروح إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وعروج الملائكة يتحقق باستمرار، فالملائكة تصعد وتنزل في أمر الوحي وفي أمر الناس وفي أمر الموت والحياة، وفي شئون كثيرة مما الله سبحانه وتعالى ائتمنها عليه وكلفها به وأقدرها عليه، فهم يصعدون وينزلون ويعرجون، ولكن المقصود أن كمال العروج هو في ذلك اليوم؛ لأنه في ذلك اليوم هو يوم الفصل الذي يحشر الناس كلهم ويجمع الناس كلهم، فهو يوم يختلف عما قبله، حتى ورد أن الله سبحانه وتعالى يقول للناس في ذلك اليوم: (إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم، فأنصتوا لي ساعة من نهار. فيسكت الناس ولا يتكلمون)، ((يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ))[النبأ:38]، وأيضاً في حديث الشفاعة: (إن الله تعالى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قط، ولن يغضب بعده مثله)، إذاً: ذلك اليوم يوم له تميزه وخصوصيته، ومن هنا كثرة نزول الملائكة وصعودها وعروجها جعل السياق يقول: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))[المعارج:4]، إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم. المراد بتقديره بخمسين ألف سنة ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))[المعارج:4]، طول ذلك اليوم ((خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))[المعارج:4]، يعني: من سنوات الدنيا، فمنذ أن يبعث الناس إلى أن يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار بتفاصيل ذلك مدتها خمسون ألف سنة، كما ذكر الله تعالى هنا، وكما في الحديث الصحيح حديث الزكاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة ولا إبل ولا غنم ولا بقر لا يؤدى منها زكاتها إلا كتب له العذاب في يوم كان مقداره خمسين ِألف سنة، حتى يقضى بين الخلائق فيرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) .فذلك هو يوم القيامة، والأظهر والأصح أن المقصود: أن طول يوم القيامة منذ بعث الناس إلى أن يصيروا إلى الجنة أو النار، طوله من أيام الدنيا وسنواتها خمسون ألف سنة كما ذكر الله عز وجل ، وبعضهم قالوا: إن المقصود لو أن أحداً من الناس كان هو الذي يتولى الحساب لكان يستغرق هذه المدة، أما في شأن الله تعالى فإنه يكون لحظة أو ساعة من نهار. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهر أن طول ذلك اليوم هو -كما حكى الله تعالى- من أيام الدنيا خمسون ألف سنة، وإن كان الله تعالى يخفف هذا اليوم عن المؤمنين، حتى ورد في بعض الأحاديث: (أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة)، فلا يطول عليهم ولا يكربهم ولا يزعجهم.إذاً: هنا الله سبحانه وتعالى تكلم عن استعجالهم بالعذاب، وسؤالهم الله تعالى أن ينزل عليهم حجارة من السماء أو أن يأتيهم بعذاب أليم، وسخريتهم، وأكد أن هذا العذاب من الله، وأنه واقع لا محالة، وأن هذا اليوم يوم عظيم طويل، فقرر الله تعالى هذه الحقيقة جواباً على استعجالهم. إشراقات في قوله تعالى: (فاصبر صبراً جميلاً) ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((فَاصْبِرْ))[المعارج:5]، لا تنزعج ولا تتضايق ولا تحزن من رفضهم وسخريتهم وتكذيبهم، فوعد الله حق. وقوله سبحانه: ((فَاصْبِرْ))[المعارج:5] تأكيد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسلك سنة الأنبياء السابقين، ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ))[الأحقاف:35]، لا تستعجل العذاب لهم، وقد نفذ صلى الله عليه وسلم وامتثل حتى لم يدع عليهم بعذاب وإنما استأنى بهم، وقال: (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم)، ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَه))[الأحقاف:35]، فقال هنا: ((فَاصْبِرْ))[المعارج:5]. الإرشاد والحث على انتهاج الصبر الجميل ثم قال سبحانه: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:5]، أصلاً أنت لما تقول لإنسان: اصبر، هذا معناه: حبس النفس على الشيء وألا يستعجل الإنسان ولا يستجيب لمشاعره الشخصية في الاستعجال، فإذا قلت له: اصبر صبراً معناه: أنك تطالبه بأن يزيد من الصبر ويتحمل أكثر وأكثر، فإذا قلت له: اصبر صبراً جميلاً أصبح المعنى أكثر عمقاً؛ لأن الصبر خلق، وهو خلق جميل، لكن لما الله سبحانه وتعالى يصفه بأنه جميل فالمقصود: أن هذا الصبر صبر جميل من جميع الوجوه، ما فيه تَشَكٍّ ولا فيه جزع ولا فيه استعجال ولا دعاء ولا تسخط ولا كلام؛ لأن بعض الناس قد يصبر ولكن لا يكون صبره جميلاً، تجده يتذمر ويتكلم ويفضي بالسر لبعض أقاربه وخلصائه وأصدقائه، أنه تحملت من فلان شيئاً عظيماً وصبرت عليه، ولكن هذا لا يفيد فيه الصبر، وعسى الله أن يعين عليه بخير، وهذا إنسان لا ندري ماذا يواجهنا منه! هذا ليس صبراً جميلاً، هذا صبر، ولكنه ليس جميلاً؛ لأنك خدشته بمثل هذا الكلام، فلما يقول ربنا سبحانه: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:5]، يعني: أنه صبر مكتمل من جميع الوجوه، ليس فيه ما يخدشه أو يعارضه، وهذا يؤكد على الخلق العظيم الذي لا يتصور حصول النجاح إلا به، كما قال عمر رضي الله عنه: [وجدنا خير عيشنا بالصبر]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يتصبر يصبره الله)، حتى يكون صابراً ثم صبوراً.قال: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:5] على كلامهم واستهزائهم وسخريتهم. إشراقات في قوله تعالى: (إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) ثم يقول له ربه سبحانه: ((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا))[المعارج:6]، يعني: هذا سبب دعائهم وسخريتهم، أنهم يرونه بعيداً، يرون العذاب بعيداً، والمقصود بالبعد هنا إما أن يكون: أنهم يستبعدونه بعقولهم ونظرتهم؛ أنه بعدما نموت ونبلى ونتحول إلى رميم وتتفرق العظام واللحم ونندرس نبعث من جديد؟! هذا بعيد. ولهذا كانوا يقولون: ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ))[ق:3]، مستبعد بعقولهم الكليلة الضعيفة.أو يكون المقصود: أنهم يرونه بعيداً في الوقت في الزمان؛ ولذلك لا يقيمون له وزناً؛ لأنهم مشغولون بالشيء القريب وهو الدنيا.والمقصود على كل حال: أن هؤلاء القوم لم يقيموا له وزناً ولا شأناً؛ ولهذا قال الله سبحانه: ((وَنَرَاهُ قَرِيبًا))[المعارج:7]، ((قَرِيبًا))[المعارج:7] يعني: في الوقت، وإن كان في نظرهم بعيداً لاستعجالهم، إلا أنه عند الله تعالى قريب. ولهذا قال سبحانه: ((كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً))[الأحقاف:35]، ساعة واحدة فقط، ((إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ))[الأحقاف:35]، وقال سبحانه: ((كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا))[النازعات:46]، يعني: الساعة ((لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا))[النازعات:46]، وحكى عنهم في سورة طه لما يتساءلون ويتخافتون بينهم: كم لبثنا في الدنيا؟ كم مكثنا؟ ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا))[طه:103]، يقول سبحانه: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا))[طه:104]، يعني: واحد يقول: أين هذه العشر؟ لماذا؟ لأن هذه راحت وصارت شيئاً قديماً، ودائماً الأشياء التي مضت عند الإنسان كأنها لا شيء، ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا))[طه:104]، ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا))[المؤمنون:113]، بل ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))[المؤمنون:113]، ليس يوماً كاملاً، ((بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ))[المؤمنون:113]، إذا ما كنا صادقين في كلامنا اسأل العادين اللذين يحصون ويضبطون الأمور، يعني: هم مصدقون أنفسهم في ذلك الموقف يوم القيامة، أن مكثهم في الدنيا كان يوماً أو بعض يوم؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: ((وَنَرَاهُ قَرِيبًا))[المعارج:7]، يعني: إذا جاء تغيرت الموازين والحسابات عند هؤلاء الناس تغيراً كبيراً. إشراقات في قوله تعالى: (يوم تكون السماء كالمهل...) معنى المهل ذلك اليوم الواقع الذي يستعجلون به يصفه ربنا سبحانه بقوله: ((يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ))[المعارج:8]، والمهل هو: المعدن المذاب، أو كما يقول السلف: دردي الزيت المذاب، يعني: ما يبقى في أسفل الزيت من البقايا والحثالة إذا أذيبت في لونها وفي شكلها وفي حرارتها تسمى المهل، فالله سبحانه وتعالى يذكر أن السماء تكون كالمهل، يعني: كالشيء الذائب أو كالنحاس أو المعدن الذائب، فتتغير وتختلف عما هي عليه في الدنيا. الجمع بين النصوص المختلفة في الإخبار عن حال السماء يوم القيامة وقد جاءت أوصاف أخرى في شأن السماء، فنقول: إن هذه الأوصاف إما أن تكون وصفاً لشيء واحد بأمور مختلفة، ولا يمنع أن تكون السماء متنوعة الشكل والهيئة في ذلك الموقف، كما في قوله سبحانه في سورة الرحمن: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ))[الرحمن:37]، يعني: تميل إلى الحمرة، ولعل المقصود بالدهان هنا مثل قوله ((كَالْمُهْلِ))[المعارج:8]، يعني: الزيت أو دردي الزيت، ويحتمل أن يكون -المقصود والله أعلم -أن هذا يقع مرة بعد أخرى، بمعنى أن الأمر طويل والمسألة خمسون ألف سنة، فيكون هناك تحولات في أحوال السماء وشكلها وهيئتها، وكذلك في الأرض. وصف حال الجبال يوم القيامة ولهذا قال سبحانه: ((وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ))[المعارج:9]، والعهن هو: الصوف، وغالبا الصوف الملون المصبوغ، وقال سبحانه: ((وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ))[القارعة:5] المفرق، يعني: بدلاً من الجبال وما فيها من الاتصال والقوة - فهي مواد حجرية ثقيلة متراصة- في ذلك الموقف تتفتت وتصبح ((كَثِيبًا مَهِيلًا))[المزمل:14]، أو تصبح ((كَالْعِهْنِ))[المعارج:9]، يعني: كالصوف المنفوش، وأيضاً هي ملونة؛ لأن الجبال في الدنيا ملونة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ))[فاطر:27]، فمنها الأبيض والأحمر والأسود كما هو معروف، فهكذا يوم القيامة تتغير حقيقتها، وتصبح ((كَالْعِهْنِ))[المعارج:9]، يعني: كالصوف المنفوش، وربما يكون فيها ألوان وطرائق مختلفة.ولاشك أن الإشارة إلى السماء مع أن الله تعالى دائماً يذكرنا بالسماء، وأن ننظر إلى إحكام بنائها، ((خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))[الملك:3-4] ما فيها فطور ولا شقوق، وكذلك الجبال الله تعالى يذكر قوة خلقها والامتنان على الناس بها، ((وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا))[النبأ:7]. وتثبيتها للأرض وضبطها لتوازنها. وصف حال الناس يوم القيامة في الانشغال عن الصداقات الحميمة لشدة الهول فيوم القيامة السماء تكون كذلك والأرض تكون كذلك، فكيف بالإنسان الذي هو ضعيف؟ وهو الآن يستعجل بالعذاب، فإذا رأى العذاب وآثاره في السماء والجبال والأرض فإن هذا الإنسان يصبح في وضع حرج وسيء وصعب، ولذلك قال سبحانه: ((وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]، يعني: كل إنسان مشغول بنفسه لمَّا يرى ما يرى، فما عنده وقت ولا هم أنه يسأل عن أقرب قريب ماذا يكون شأنه أو ما أمره أو مصيره أو يسأل عن حاله؟ وكثيرا ما كان الناس يقرنون بين الجبال وبين الناس، أبو العلاء المعري لما مات أبوه رثاه بقصيدة كان يقول فيها:فيا ليت شعري هل يخف وقاره إذا صار أُحُدٌ في القيامة كالعهن جبل أحد .وهل يرد الحوض الروي مبادرا مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني يقول: هل سوف يمشي مع الناس ويزاحم من أجل الحوض، يعني: هذا من باب الظن والتفاؤل، وإلا فلا يشهد لأحد بجنة ولا نار، أم لا يريد أن يزاحم فيستأني؛ لأنه كان في الدنيا وقوراً قليل المخالطة للناس.والمقصود هنا: أن المرء إذا رأى جبالاً في الدنيا يعرفها قد أصبحت كالعهن فإنه يهتز لذلك ويذهب عنه وقاره وهدوؤه، حتى ((َلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]، والحميم هو: الصديق، وليس الصديق فقط، وإنما الصديق الوثيق الصداقة والصلة والعلاقة، سواء كان قريباً أو صديقاً، ودائماً ما يقولون: فلان علاقته بفلان حميمة، يقصدون أنها علاقة خاصة، وأنه ما بينهما فواصل، وأنه هناك مشاعر قوية جداً تحكم علاقتهما في ذهابهما وإيابهما وجلوسهما، فلا يجلسان إلا إلى جنب بعض، ولا يسافران إلا معاً، ومشاريعهما مشتركة وأحاديثهما مشتركة، وحتى في المجلس ربما يتهامسان فيما بينهما ويتحادثان، العلاقة بينهما علاقة اندماجية جداً في الدنيا، هذا معنى الحميمية، فالله سبحانه وتعالى ما قال: ولا يسأل قريب أو صديق، وإنما قال: ((وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ))[المعارج:10]، يعني: أعلى درجات الصداقة والقرابة، ومع ذلك يوم القيامة لا أحد يسأل أحداً، مع أنه طال العهد بهم، ومرت بهم سنين طويلة تحت الأرض، وهم يرونهم الآن، تخيل، يعني: يراه بعد مائتي سنة، ثلاثمائة سنة، أربعمائة سنة، ما يسأله، ما يقول له: كيف حالك؟ ولا أيش أخبارك؟ ولا ماذا جرى للناس من بعدي؟ ولا يسأله عن شيء من هذا قط، بل ولا يسأله هل هو في خير؟ أو من أهل الإيمان أو الكفر؟ أو ما مصيره أو ما حاله أو ما حاجته؟ قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلا يَسْأَلُ))[المعارج:10]، ولم يبين عماذا يسأله؛ لأن المقصود أنه كل الأسئلة ملغاة حينئذ، ولا أحد يسأل أحداً عن شيء، ولا أحد يسأل أحداً شيئاً أيضاً؛ لأن قوله سبحانه: ((وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]، يعني: ما يسأل عن شيء، وأيضاً لا يطلب منه شيئاً، هذا قوله: ((َلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]، لماذا؟ لأن كل إنسان مشغول بنفسه، فما عنده وقت أنه يلتفت لأحد، ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ))[عبس:35-36]، فلا أحد يعطي أحداً شيئاً، ولا يسأل أحداً شيئاً. إشراقات في قوله تعالى: (يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه...) قال الله سبحانه وتعالى: ((يُبَصَّرُونَهُمْ))[المعارج:11]، يعني: كأن بعض الناس قالوا: كيف يسأله وهو لا يراه أصلاً؛ لأن الخلق قد اجتمعوا منذ خلق الله الدنيا إلى قيام الساعة، كلهم على صعيد واحد، فكيف يعرف قريبه؟ وكيف يعرف حميمه؟ وكيف يراه؟!قال الله سبحانه وتعالى: ((يُبَصَّرُونَهُمْ))[المعارج:11]، يعني: الله سبحانه وتعالى يجعل بعضهم يبصر بعضاً على رغم ذلك كله، تعمداً ((يُبَصَّرُونَهُمْ))[المعارج:11]،لم يقل: يُبصِرُونهم. لا، ((يُبَصَّرُونَهُمْ))[المعارج:11]، يعني: يمكنون من رؤيتهم، وقد يكون هذا في المؤمنين وهذا في الكفار، أو هذا في الجنة وهذا في النار، أوهذا في مكان وهذا في مكان آخر، ومع ذلك يراه ويبصره، ويتعمد أن يصد عنه ولا يسأله عن شيء.فتخيل كما قال ربنا سبحانه: ((يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ))[الحج:2]، ذهول: ((وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ))[الحج:2]، فلا أحد يسأل أحداً عن شيء، حتى الوالد لا يسأل ولده، والزوج لا يسأل زوجته، والزوجة لا تسأل زوجها، والأم لا تسأل ولدها، قد تقطع بينهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ))[الأنعام:94]، ((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ))[العنكبوت:25]، فلا أحد يسأل أحداً إطلاقاً، ((وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]. وصف حال المجرم في تمني الافتداء من عذاب النار ((يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي))[المعارج:11]، انظر الذي كان قبل قليل يسأل عن العذاب ويستبطئ العذاب، الآن في هذا الموقف لا يلتفت لأحد، ولا يسأل أحداً، وربما كان هؤلاء الناس الذين يراهم ويبصرهم عمداً- لأن الله سبحانه وتعالى يجعله يراهم ويبصرهم- كانوا في الدنيا من أسباب الضلال، وربما كان يستعرض أمامهم قوته وذكاءه وكبرياءه وسخريته، أو من أجلهم كذب أو من أجلهم كفر، ومع ذلك لم يعد يلتفت إليهم، بل الأمر أكثر من ذلك، ما هو فقط أنه لا يسأل، بل يقول ربنا سبحانه: ((يَوَدُّ الْمُجْرِمُ))[المعارج:11]، يتمنى المجرم ((لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ))[المعارج:11]، يود أن يخلص من العذاب ويدفع فدية ببنيه، أقرب الناس إليه الذين خلقوا من صلبه. دلالة الترتيب فيمن يتمنى المجرم الافتداء بهم من أقاربه وبدأ بالبنين لأنهم أشد الناس علاقة، فإن الولد سر أبيه وبضعة منه، كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن فاطمة : (إنها بضعة مني)، يعني: قطعة مني، خلقت مني، لكن سبحان الله! الفرق بين النسب الذي بني على تقوى وإيمان وما ليس كذلك، فكل نسب ينقطع يوم القيامة، وكل سبب ينقطع يوم القيامة، إلا نسب النبي صلى الله عليه وسلم وسببه، إلا الإيمان وإلا التقوى وإلا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوه على الهدى.قال: ((يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ))[المعارج:11]، فبدأ بهم لأنهم هم الأقرب، أقرب القرابة.((وَصَاحِبَتِهِ))[المعارج:12] الزوجة، لأنها تلي الأبناء في القرابة والمحبة، وبطبيعة الحال الزوجة أيضاً تتمنى أن تفتدي من العذاب بزوجها.((وَأَخِيهِ))[المعارج:12] انتقل بعد ذلك للأخ لأنه يلي الزوجة في القرابة.ثم قال: ((وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ))[المعارج:13]، مالك رحمه الله يقول: ((وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ))[المعارج:13] هي أمه؛ لأنه يأوي إليها، وهو الذي انفصل عنها، والأكثرون من العلماء يقولون: المقصود بفصيلته التي تؤويه يعني: أفراد القبيلة القريبة منه، مثلما تقول: القبيلة والفخذ والفصيلة، يعني: المجموعة من الأقارب المحيطين بالرجل، مثل العم وابن العم ونحوهما، فهذه هي الفصيلة، وهذا أقرب، بحيث يكون المقصود بالسياق التسلسل، أنه بدأ بالبنين، يعني: يفتدي بأحب الناس إليه، وهم بنوه، ثم صاحبته، ثم أخوه، ثم فصيلته وهي الدائرة الأوسع، وسبحان الله! الترتيب في سورة عبس عكس هذا تماماً، لماذا؟ لأنه هنا يريد أن يفتدي بهم، فأقرب الناس إليه يريد أن يفتدي به، ثم الأبعد، ثم من في الأرض كلها جميعاً؛ لأنه لا يبالي بأحد من الناس حينئذ ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ))[عبس:37]، لكن في سورة عبس لأن القضية قضية فرار قال الله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ))[عبس:34]، فبدأ بالقريب الذي هو بعيد نسبياً، وانتقل إلى من هو أقرب، ((وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ))[عبس:35]، ثم انتقل إلى الأقرب ((وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ))[عبس:36]، ففيما يتعلق بالفرار ذكرهم الله تعالى الأبعد ثم الأقرب، أما فيما يتعلق بالافتداء الذي يريد أن يفتدي بهم فبدأ بالأقرب، وهو الأبناء، ثم الصاحبة، ثم الأخ، ثم الفصيلة التي تؤويه، وهي القبيلة أو البطن من القبيلة.ثم قال سبحانه: ((وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا))[المعارج:14]، ما عنده مانع أن يفتدي بالناس كلهم أن يهلكوا. بيان قرع الآية الكريمة للقلوب في الإعداد للآخرة وقصد رضا الله تعالى وسبحان الله! يعني: هذا الكافر في الدنيا كان يمكن أن يفتدي بأقل من ذلك، ولكن كانت السخرية تمنعه والاستعجال والدعاء والسؤال، فهذا هو الموقف، ومن شأن مثل هذا السياق أن يجعل الإنسان الذي في قلبه شيء من حياة يستيقظ، أنه بدلاً من السخرية عليه أن يتخيل نفسه في ذلك الموقف وفي ذلك اليوم، ويعد للأمر عدته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا))[المعارج:14]، كم من الناس من يفعل من أجل الناس، يضحك أو يضحك الناس، يتكلم، يحرص على مكانته عند الناس، يحرص على سمعته، يحرص على شهرته، يحرص على توقعات الناس منه، بينما هؤلاء الناس يوم القيامة هم لا ينفعونه شيئاً، كما قال سبحانه: ((وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]، لا ينفعونه شئياً، ولا ينفعهم شيئاً، وأكثر من هذا أنه يتمنى أن يفتدي من عذاب الله بهم كلهم جميعاً، وهل يقول هذا الإنسان يوم القيامة الكلام هذا بلسانه أو لا يقوله؟ الله سبحانه وتعالى قال: ((يَوَدُّ))[المعارج:11]، يعني: يتمنى بقلبه، لكن ليس ثمت مانع من أن يكون الإنسان يوم القيامة يصرح بمثل هذا؛ ليكون هذا أبلغ في إقامة الحجة، وأن على الإنسان دائماً أن يكون في دينونته، معنى الدينونة لله سبحانه وتعالى: اجعل اتصالك بالله، وعملك لله، ومشاعرك مع الله، وأمرك ونهيك وفعلك وتركك وأخذك وعطاءك لله سبحانه وتعالى، لا يكبر الناس في عينك كثيراً، نعم عليك أن تراعي الناس، أن تحترم الناس، أن تتخلق معهم بالخلق الحسن، أن تجاملهم وتطايبهم وتداريهم بالأشياء الجيدة، لكن فيما يتعلق بالقضايا التي تمس مسئوليتك واعتبارك وعلمك ودينك وآخرتك عليك أن تجعل أمرك مع الله سبحانه وتعالى، وأنت تتخيل هذا الموقف تماماً: ((وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا))[المعارج:10]، وموقف ((يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ))[المعارج:11] إلى قوله: ((وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا))[المعارج:14] كل الناس. دلالة (ثم) في قوله تعالى (ثم ينجيه) قال سبحانه: ((ثُمَّ يُنجِيهِ))[المعارج:14]، ولاحظ أنه لم يقل: فينجيه، وإنما قال: ((ثُمَّ))[المعارج:14]، وهنا (ثم) تدل على الاستبعاد، يعني: مع هذا كله يا ليت الأمر ينفع! يا ليته ينجي! لكن هيهات! ولهذا قال: ((ثُمَّ يُنجِيهِ))[المعارج:14]، يعني: يتمنى أن يفتدي بكل هؤلاء ثم ينجيه، لكن حتى هذا لا يمكن أن يقع، هو أمر في غاية الاستبعاد؛ ولهذا عبر ربنا سبحانه بقوله: ((ثُمَّ يُنجِيهِ))[المعارج:14]، يعني: بعد هذا كله يحلم بالنجاة؟! لا، لا ينجيه، لماذا لا ينجيه؟ إشراقات في قوله تعالى: (كلا إنها لظى ...) قال سبحانه: ((كَلَّا إِنَّهَا لَظَى))[المعارج:15]، كيف ينجو؟! قوله: ((كَلَّا))[المعارج:15] هذا ردع وزجر يدل على النفي، يعني: لا ينجيه قريب ولا بعيد ولا حميم ولا صديق ولا شفيع، لماذا؟ قال ربنا: ((إِنَّهَا لَظَى))[المعارج:15]. المسألة ليست أمراً دنيوياً عابراً أو سهلاً، ((إِنَّهَا))[المعارج:15]، والضمير ليس عائداً إلى مذكور سابق، وإنما العرب يقولون: هذا ضمير القصة أو ضمير الشأن، ويقصدون به الإشارة إلى أنه إذا جاء أمر هائل وفخم وكبير يأتي ذكر ضميره قبله، فلما يقول الله سبحانه وتعالى: ((كَلَّا إِنَّهَا لَظَى))[المعارج:15]، يعني: إن الأمر أو القصة أو الخبر أو الشأن يتعلق بشيء هائل. معنى (لظى) ((كَلَّا إِنَّهَا لَظَى))[المعارج:15]، ولظى من أسماء النار، أو هي دركة من دركاتها، قيل:هي الدركة الثانية، وقيل: هي اسم من أسماء جهنم، وهي مأخوذة من التلظي وهو شدة الاشتعال، كما قال ربنا سبحانه: ((فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى))[الليل:14]، يعني: تتوقد وتشتعل، وأيضاً تتلمظ تريد هؤلاء الناس، ((كَلَّا إِنَّهَا لَظَى))[المعارج:15]، هي التي تنتظر هؤلاء القوم وهي التي يستعجل بها القوم. معنى قوله تعالى (نزاعة للشوى) ((نَزَّاعَةً لِلشَّوَى))[المعارج:16] (تنزع) يعني: تأخذه أخذاً قوياً شديداً، ((نَزَّاعَةً لِلشَّوَى))[المعارج:16]، العلماء يقولون: الشوى هي: جلدة الرأس، الشوى: جلدة رأس الإنسان، هذه الشوى، ويقولون أيضاً: إن الشوى هي الأطراف، فالصياد إذا ضرب ولم يصب الرأس أو لم يصب الطير أو الصيد وإنما أصاب أطرافه يقولون: أشوى، يعني: ما أصاب الرأس وإنما أصاب الأطراف، وهذا منه ما نقول أحياناً: أشوى. إذا قلت: فلان -مثلاً- مريض، فينزعج الإنسان، يقول: بسم الله عليه، أيش الذي فيه؟ عسى ما هناك شر؟فإذا قلت: لا، أبداً، أنفلونزا، زكام، تجد الإنسان يقول: أشوى، يعني: أهون، الأمر أهون، فالمقصود إذاً بقوله سبحانه: ((نَزَّاعَةً لِلشَّوَى))[المعارج:16] لجلدة الرأس، للأطراف، كيف ((نَزَّاعَةً لِلشَّوَى))[المعارج:16]؟ يعني: تأخذ الإنسان، هذا معناه -والله أعلم، وهذا الذي وقع في فهمي أنه مراد السلف في تفسيرهم لهذه الآية- أنه ليس المعنى أنها تنزع الجلدة من الإنسان، لا، وإنما المقصود أنها تنزع الإنسان، المقصود تنزعه بجلدته وتنزعه بأطرافه، كما قال ربنا سبحانه: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ))[الرحمن:41]، يعني: يحمل بأطراف يديه ورجليه وجلدة رأسه كما يفعل بالمجرم، ويلتقط التقاطاً، فهذه النار سلطت على هؤلاء المجرمين تنتزعهم وتلتقطهم بهذه الطريقة، تنزعهم بأطراف أقدامهم وأطراف أيديهم وبجلدة رءوسهم وترمي بهم إليها، ((نَزَّاعَةً لِلشَّوَى))[المعارج:16]. إثبات صفة الدعاء والمناداة للنار ((تَدْعُو))[المعارج:17] تنادي، إما أن يكون المقصود: تدعو هي نفسها تدعو، ولا مانع أن الله تعالى يوم القيامة يجعل أموراً كثيرة خلاف ما يعهده الناس في الدنيا، النار في الدنيا لا تتكلم، لكن يوم القيامة الأمر مختلف؛ ولهذا ذكر الله تعالى عن النار أشياء كثيرة جداً ليست من شأن النار في الدنيا، مثل قوله سبحانه: ((إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا))[الفرقان:12]، وكما قال سبحانه: ((إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ))[الملك:7-8]، يعني: تكاد تتقطع من الغيظ والحنق على هؤلاء القوم الذين أمرت بهم. وهنا قال: ((تَدْعُو))[المعارج:17]، إذاً: هي تدعو كما أخبر ربنا.وقال بعض الأئمة: إن المقصود هنا دعاء الخزنة الذين وكلهم الله تعالى بالنار، فعبر عن دعاء الخزنة ومناداتهم لهؤلاء القوم بأنه دعاء النار، وقال آخرون: ((تَدْعُو))[المعارج:17]، أي: بالفعل بحقيقتها في كونها تحرقهم وتأكلهم أكلاً وتشويهم شياً، فهذا بمثابة الدعاء. والأول أقرب وأوجه، أنها تدعو، تنادي وتقول لهم: هلموا إلي، تعالوا ، ولاحظ هنا التناسب بين قوله سبحانه: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ))[المعارج:1] وبين هذه النار التي تدعو، الآن في الدنيا هم يدعونها ويستعجلون بها ويوم القيامة هي التي تستعجلهم وتقول: تعالوا، هذا ما كنتم توعدون. معنى قوله تعالى (تدعو من أدبر وتولى) ودلالاته قال الله عز وجل: ((تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى))[المعارج:17-18]، عجيب! إذاً: الخصال والخلال، الإنسان ليس هو بنسبه ولا بحسبه ولا ببلده ولا بقبيلته، وإنما هو بالعمل، جنة أو نار، فالله تعالى يصف هؤلاء القوم المكذبين المستعجلين الذين تدعوهم النار وقد أعدت لهم ولا يفتدون منها بشيء كائناً ما كان، يقول الله سبحانه وتعالى: ((تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى))[المعارج:17]. أدبر يعني: أعرض، أدبر: أعطاك ظهره، الدبر هو الظهر، فهذا الإنسان أعطاك ظهره، يعني: أعطاك ظهره: أدبر عنك، أعرض، لكن هؤلاء القوم أعرضوا أولاً، والإنسان ممكن أن يعرض ولا يكون عنده شيء إلا الإعراض فقط، ما أعطاك جواباً حسناً ولا قبيحاً، سكت، هذا تقول: أدبر، لكن هؤلاء القوم أضافوا إلى ذلك شيئاً آخر، قال الله تعالى: ((تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى))[المعارج:17]، يعني: مع الإدبار أعطاك ظهره وصار يمشي إلى طريق آخر، وأصل التولي كون الإنسان تولى شيئاً، يعني: جاء إليه وأقبل عليه، ومنه المولى، ((اللَّهُ مَوْلاكُمْ))[آل عمران:150]، ((ذَلِكَ بَأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا))[محمد:11]، فهذا الإنسان تولى، يعني: أعرض عنك وتولى شيئاً آخر، أعرض عن الإيمان وتولى الكفر، وهذا فيه دليل على أن الإنسان لابد له من شيء يعبده، فإما أن يعبد الرحمن أو يعبد الشيطان ، كما قال ربنا سبحانه: ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))[يس:60-61]، إذا لم يسلك الإنسان طريق الخير سلك طريق الشر؛ ولذلك كان بعض الحكماء يقول: نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، الوقت إذا ما صرفته في طاعة صرفته في معصية في الغالب، جهودك وإمكانياتك وعقلك وقلبك وقواك وقدراتك إذا وظفتها في أشياء جيدة مفيدة نافعة، في قراءة في درس في تجارة في زراعة في حرث في تجارب في خبرات في إدارة في وظيفة فهذا حسن، وإذا لم تفعل وظفتها تلقائياً في أمور تضر ولا تنفع. ولهذا قال: ((تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى))[المعارج:17]، ولاحظ هنا التناسب العجيب جداً بين قوله: ((أَدْبَرَ وَتَوَلَّى))[المعارج:17] وبين قوله: ((تَدْعُو))[المعارج:17]، فهذا الإنسان في الدنيا أعرض وأدبر وتولى عن الإيمان، وعن التذكير بهذه المعاني، فيوم القيامة هي تدعوه؛ لأنه أدبر وتولى، فتناديه ليأتي إليها مكرهاً، بدلاً من أنه كان يمكن أن يأتي في الدنيا طائعاً مختاراً. معنى قوله تعالى (وجمع فأوعى) ودلالته ((وَجَمَعَ فَأَوْعَى))[المعارج:18] جمع المال، وليس المقصود جمع المال، فالجمع بحد ذاته ليس عيباً ولا خطأً، وإنما المقصود جمعه من حلال وحرام، وقدمه على أمر الآخرة، وصرفه هذا المال عن الإيمان وعن الاعتبار، وزيادة على ذلك ((َجَمَعَ فَأَوْعَى))[المعارج:18]، يعني: جعل هذا المال في أوعية. (أوعى) يعني: وضعه في أوعية وأغلقها عليه، فلا يطعم المسكين، ودائماً في القرآن حتى في الآيات المكية يعيب الله سبحانه وتعالى على المشركين، بقدر ما يعيب عليهم كفرهم بالدار الآخرة وتركهم للصلاة يعيب عليهم تقصيرهم في حق اليتيم والمسكين وعدم إعطائهم وبذلهم للمال، فهذا ((الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ))[الماعون:1-3]. فهنا مثلما سجل الله تعالى عليهم إدبارهم وتوليهم عن الإيمان وإعراضهم؛ سجل عليهم أيضاً أنهم جمعوا الأموال من كل الطرق، وأوعوها، جعلوها في أوعية وأغلقوا عليها، فلا تفتح ولا يطعم منها يتيم ولا مسكين ولا يؤدى منها حق، ولا يراعى ما لله تبارك وتعالى فيها من الشكر والواجب.((وَجَمَعَ فَأَوْعَى))[المعارج:18]، إذاً: هذا هو الوعيد، وهذا هو العذاب، وهذا شيء عجيب، فالقدر السابق من السياق متسق جداً، أنه بدأ بذكر استعجالهم بالعذاب، ووصلنا الآن إلى وقوفهم على النار، ((إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))[الأنعام:27-28]، بدأت الآيات بذكر السائل المستعجل بالعذاب الواقع، واختتمت في هذا القدر بذكر وقوفهم على النار، وأن النار تدعوهم بعد ما كانوا مدبرين، وأنه لا ينفعهم حين ذاك ما جمعوا من مال أو غيره. إشراقات في قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً ...) بعد ذلك الله سبحانه وتعالى يعجب من الإنسان، ويبين العبرة، وينبهنا إلى أخذ الدرس، فيقول سبحانه معقباً على هذه القصة التي تتكرر باستمرار، يقول: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ))[المعارج:19-22]. المراد بالإنسان (الإنسان) الأقرب أن المقصود جنس الإنسان، وبعضهم يقول: المقصود الإنسان الكافر، أو النضر بن الحارث أو فلان أو فلان من أعيان المشركين، لكن الصواب أن المقصود: الإنسان كل إنسان، جنس الإنسان، جنس ابن آدم، وهذا مثل قوله سبحانه: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))[الأحزاب:72]، أو مثل قوله سبحانه: ((قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ))[عبس:17]، أو قوله عز وجل: ((خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ))[الأنبياء:37]، من طبع الإنسان أنه يستعجل، أو غير ذلك من الآيات التي بها الإشارة إلى ما جبل عليه الإنسان وخلق عليه الإنسان بالفطرة من الضعف، ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ))[الروم:54]، أو من عجلة أو من ظلم أو من جهل، هنا الله سبحانه وتعالى يسجل على الإنسان جنس الإنسان أنه خلق هلوعاً. ما تحمله لفظة (خلق) من إشارات وكلمة (خلق) تأتي أحياناً بذكر الخلق الجثماني، مثل قوله سبحانه: ((نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ))[الإنسان:28]، يعني: أجسامهم في الدنيا والقوة التي خلقوا عليها، فهذا إشارة إلى ما خلق عليه الإنسان وجبل عليه من الخلق البدني. أما هنا في قوله: ((خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19] فهي إشارة إلى الجوانب المعنوية أو الأخلاقية التي جبل عليها الإنسان، ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19]، جبل بفطرته على نوع من الهلع. المراد بالهلع والعلماء مختلفون في أجمع عبارة يفسر بها معنى الهلع الذي وصف الله تعالى به الإنسان، يقول ربنا سبحانه: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19]، الهلع أجمع وأجمل ما يقال فيه هو ما جاء في القرآن الكريم في تفسيرها، مثلما قال ثعلب لما سئل: ما معنى (هلوعا) في لسان العرب؟ قال: ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا))[المعارج:20-21]، لكن لا مانع أن نفهم أن كلمة الهلع في لغة العرب تعني: الإنسان الضعيف المتهالك المسترخي عند الأزمات، فهذا هو الهلوع، يعني: إنسان -مثلاً- إذا صام بان عليه الجوع وصار دائماً وأبداً يتذكر وينتظر، وهو ناظر إلى الساعة متى يجيء الإفطار، نقول: هذا الإنسان هلوع، إنسان عند الخوف تجده خائفاً وجلاً أن يأتي العدو من هنا أو من هنا أو أن تأتي مصيبة أو نازلة فيظهر عليه التأثر والاضطراب، وكذلك عند المال تجد هذا الإنسان مستعجلاً، يعني: يريد أن يجمع من هنا، ومن هنا، ولا يريد فرصة تفوته، يعني: عنده حرص زائد، هذا الإنسان هو الهلوع، فنقول: معنى الهلع هو: الضعف والاسترخاء والتهالك الشديد عند تحول الأحوال. هذا معنى الهلوع، ومن تفاصيل ذلك ما ذكره ربنا سبحانه أنه ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا))[المعارج:20]. المراد بجزع الإنسان من مس الشر ومنعه عند مس الخير والمقصود بالشر هنا يعني: الفقر أو الجوع أو المرض، وهذه تسمى أحياناً السيئة في القرآن الكريم، ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ))[النساء:78]، فإذاً: المقصود بالشر هنا الشر الدنيوي، إذا أصابه شيء يجزع بسرعة، وربما يصيبه مرض يسير فتجد هذا الإنسان قلقاً يراجع العيادات والتقارير والتحاليل والمستوصفات ولا يطمئن قلبه أبداً، يمكن أن المرض كبير وخطير، عنده هلع.((وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا))[المعارج:21]، المقصود بالخير هنا الرزق والعافية والسعة والمال والولد، فيكون ((مَنُوعًا))[المعارج:21]، لا تجد عنده الكرم والعطاء والبذل. دفع شبهة الاعتراض على مساءلة الله تعالى عبده عما جبله عليه وقد يستغرب الناس ويقولون: إذا كان الله سبحانه يقول: إن الإنسان (خلق)، إن الله خلقه كذلك؛ فكيف يعاتب الإنسان ويوبخ على شيء جبل عليه بالفطرة؟وأقول: إن الله تعالى خلق الإنسان على مقتضى حكمته في الدنيا لمصالح، مثلاً: الشهوة، جبل الإنسان على الشهوة، وربنا سبحانه يقول: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا))[النساء:28]، يقول الكثير من الأئمة والسلف والمفسرين: خلق الإنسان ضعيفا أمام النساء، أمام الشهوة ، يعني: لا يستطيع أن يقاوم، ومع ذلك الله سبحانه وتعالى ابتلاه بأن يفعل الحلال ويترك الحرام، فلا يأتي إنسان يقول: لماذا وجدت الشهوة في الإنسان؟ وجدت لحكم إلهية ربانية في بقاء النسل، وفي تكاثر الناس، وفي قيام الحجة، وفي الابتلاء والاختبار، إلى غير ذلك من المعاني. وكون الإنسان يضعها في خير أو في شر، في حق أو باطل هذه مسئوليته، وهكذا موضوع الأخلاق الأخرى، حب المال، الإنسان جبل على حب المال، ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ))[آل عمران:14]، لكن كون حب المال يطغى ويزداد حتى يسيطر على الإنسان هذا خطؤه هو، وعيبه هو، وتقصير وعدم وجود المرشد أو الهادي أو الدليل له، وإنما المطلوب أن يكون معتدلاً في ذلك، وأما حبه للمال فهو لمصلحة واضحة في إعمار الكون وفي وجود التنافس والتسابق وفي الابتلاء أيضاً، ((أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))[هود:7]، وهكذا كل الأشياء هي ابتلاء. دلالة الآيات على أثر الإيمان والعبادات في صلاح الإنسان وتهذيبه ولهذا الآية الكريمة تدل على أثر الإيمان في تهذيب الإنسان، وهي من أعظم الدلالات القرآنية على هذا المعنى، يعني: على أن الإيمان وأن العبادات -وعلى وجه الخصوص الصلاة- ذات أثر كبير وعظيم في تهذيب أخلاق الإنسان، قد يكون الإنسان شرساً سيئ الطبع سيئ الملكة سيئ الخلق؛ بسبب التربية، بسبب البيئة، بسبب الموروث، بسبب الظروف التي ألمت به، فتجد هذا الإنسان قاسياً غليظاً جحوداً، سيئ الخلق، نزقاً طائشاً متسرعاً، هذا قد يحدث، ولكن بالتقوى والإيمان والصلاة يذعن ويلين ويسلس، الآية تؤكد هذا المعنى، وتبرزه بقوة؛ ولهذا قال سبحانه: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19]، يعني: عنده قابلية وعنده استعداد وعنده نوع من الفطرة والجبلة في هذا، ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا))[المعارج:20-21] لا يعطي. إشراقات في قوله تعالى: (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون...) قال سبحانه: ((إِلَّا الْمُصَلِّينَ))[المعارج:22]، فاستثنى فئة من الناس وصفهم بالمصلين، يعني: المؤمنين المسلمين، مثلما ذكر في سورة المدثر: ((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ))[المدثر:42-43]. أثر الصلاة في التهذيب السلوكي إذاً: المصلون هنا المقصود بهم المؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وذكرهم بالصلاة كواحدة من أخص الصفات الإيمانية العملية، والصلاة فعلهم هم، فدل على أن الإنسان يمكنه بفعله بمحاولته بعبادته أن يهذب الكثير من أخلاقه، وهذا تجده فيما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصحابة من التربية والتهذيب، وقد كان الكثير منهم عندهم بعض أخلاق الجاهلية، فلما جاء الإسلام أذعنوا ولانوا وذلوا وانقادوا، كما في قصة الرجل الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أوصني، قال: لا تغضب. جاء مرة أخرى: يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب، ثالثة: أوصني، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب). إذاً: دليل أنه ممكن أن يكون إنسان عنده في جبلته الغضب كموروث من البيئة أوالأب أو بعض الظروف، لكن بالإيمان والصلاة وتهذيب النفس وتربيتها وتعاهدها وملاحظتها يذل وينقاد ويسلس، لكن هذا يتطلب أن يكون الإنسان رقيباً على نفسه، أما الإنسان الذي يسلط ملاحظاته على الآخرين ويعيب الآخرين دون أن يتفطن لنفسه؛ فهذا يمضي قدماً لا يلوي على شيء، ولا يصحح نفسه؛ لأنه لا يرى لنفسه خطأً أصلاً، ومن هنا قال سبحانه: ((إِلَّا الْمُصَلِّينَ))[المعارج:22]، هؤلاء مستثنون، وأشاد بالصلاة، ويكفي إشادة أن الله تعالى جعلها هنا هي العنوان العريض لكل الصفات الباقية، فقال: ((إِلَّا الْمُصَلِّينَ))[المعارج:22]. ديمومة العمل شرط استحقاق الاتصاف به ولا يوصف الإنسان بالمصلي إلا إذا كان مداوماً على الصلاة، أما إنسان صلى يوماً من الدهر فلا يمكن أن تقول: هذا مصل، ومع ذلك قال: ((الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ))[المعارج:23]، فذكر الصلاة مرة أخرى. وذكر لفظ: ((دَائِمُونَ))[المعارج:23] يعني: مستمرون عليها، لا ينقطعون على الدوام. لفتة في دلالات قوله تعالى (دائمون) وهذا دليل على أن كلمة الدوام لا تعني البقاء الأبدي، بعض الناس يقول: الدوام لله، هذا غلط، الله سبحانه وتعالى هو الحي الذي لا يموت، لكن لم يوصف بالدوام، وإنما الدوام يكون أمراً دنيوياً، والناس من عادتهم إذا رأوا المطر الذي ينزل باستمرار قالوا: هذا المطر ديمة، ولما سئلت عائشة عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان عمله ديمة)، يعني: كان إذا عمل عملاً أثبته، إذاً: الدائم هو الأمر الدنيوي المستمر، وقد يطلق على ما هو أوسع من ذلك، لكنه ليس من صفات الله سبحانه وتعالى، لا يقال في صفات الله عز وجل.المهم هنا قال: ((عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ))[المعارج:23]، فهذا يدل على الاستمرار في الصلاة، وأنهم لا ينقطعون عنها، ويدل على معنى ثان، وهو أنهم مقبلون على صلاتهم لا يلتفتون عنها، يعني: على الصلوات كلها هم دائمون، يصلون الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وحتى الوتر ما يقصرون فيها إن شاء الله، وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (الوتر حق)، فأوتروا يا أمة محمد (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا).ولكن من معنى الدوام: أنهم مقبلون عليها، يعني: إذا صلى الواحد منهم ما يلتفت يمناً ولا شمالاً، فهو دائم على استقبال القبلة لا ينصرف عنها، وإنما يظل مقبلاً على صلاته، فهذه صفة. إشراقات في قوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) ثم قال: ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ))[المعارج:24-25]، ودائماً الصلاة تقرن مع الزكاة، حق البدن الصلاة وحق المال الزكاة، فقال: ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ))[المعارج:24]. المراد بالحق المعلوم وقد جاء عن ابن عباس و عكرمة و السدي وغيرهم أن الحق المعلوم هنا هو: الزكاة، وهذه الآية نزلت بـمكة قبل فرض الزكاة، فنقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الله تعالى المسلمين بالزكاة فيما بعد هو بيان للمجمل في هذه الآية، فحتى قبل الزكاة كان في أموالهم حق، وهم يعتبرونه حقاً، فليس فيه منة ولا جر يد ولا افتخار؛ لأنه حق يرون أنه يجب عليهم إخراجه.وأيضاً قال: ((حَقٌّ مَعْلُومٌ))[المعارج:24]، لما بينه الله سبحانه وتعالى وبين أنصباءه ومقاديره وما يجب في المال، (2.5%) مثلاً من الذهب أو الفضة أو الورق النقدي أو غيرها، الله تعالى بينه فصار معلوماً، لكن حتى قبل أن يبينه الله كان معلوماً عندهم هم، فالواحد منهم يجعل في ماله حقاً، يقول: هذا حق للمساكين والفقراء، ولا يسمح لأحد بالاعتداء عليه. معنى السائل والمحروم وقال سبحانه: هذا الحق المعلوم ((لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ))[المعارج:25]، أما السائل فهو الذي يسأل ويطلب من الناس، أما المحروم فهو المتعفف، نقيض السائل، لا يسأل، ((لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا))[البقرة:273]، ولهذا لا يعرفه الناس، وقد لا يعطونه؛ لأنه عفيف، ولا يقدم لهم وجهه، ولا يبسط يده لهم. التحذير من سؤال الناس بغير حاجة وضرورة والنبي عليه الصلاة والسلام قد نهى عن المسألة، وقال: (إنها تأتي يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً في وجه الإنسان)، لأن المسألة تذل الإنسان وتريق ماء وجهه وتدمر إنسانيته؛ ولهذا فإن من الإيمان ومن الكرم أن تعطي الإنسان المحتاج دون أن يسأل، لا تحوجه إلى أن يريق ماء وجهه، وأن يذل نفسه بالسؤال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة أيضاً، لما قال للرجل وأمره أن يأخذ حبلاً وأن يأخذ فأساً، وأصلحه له النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يجمع الحطب، وباعه له (من يشتري مني هذا بدرهمين، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن يسأل الإنسان الناس أعطوه أو منعوه).لكن قد يقع للناس ضرورات أو مجاعات أو أحوال لا بد لهم منها، فقال الله سبحانه وتعالى: ((لِلسَّائِلِ))[المعارج:25]، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (للسائل حق وإن جاء على فر)، وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ وهو منقطع، وقد جاء عند الإمام أحمد أيضاً، فهو لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والسائل إذا كان متكثراً لا ينبغي إعطاؤه؛ لأن إعطاءه إغراء له بالسؤال ومد اليد. من معاني المحروم قال سبحانه: ((وَالْمَحْرُومِ))[المعارج:25]، والمحروم ذلك الإنسان المتعفف، ويدخل في المحروم ألوان أخرى، المحروم: المحارف، الإنسان الذي كلما اشتغل في شيء فشل ما وفق، دخل في التجارة وأسس المحل وأقام البناء ثم فشل، وانتقل بعد ذلك إلى شركة واجتهد ففشل، دخل في الأسهم ليفتح الله عليه، ذهب للزراعة كذلك لم يوفق، كلما دخل في شغلة لم يوفق فيها، هذا يسمى محارفاً، يعني: ما وقع في يده حرفة وأصبح محتاجاً، وبعض السلف رأى كلباً يلهث فأعطاه وقال: هذا محروم.إذاً: كل صدقة يعطيها الإنسان أو بذل، كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (في كل كبد رطبة أجر). هذه الروح الإنسانية التي تجعل المؤمن يعطف على القط، فتدخل امرأة النار في قط حبسته ولم تتركه يأكل من خشاش الأرض، أو يعطف على الكلب فيطعمه، وتدخل امرأة من بني إسرائيل الجنة في كلب سقته فشكر الله لها وغفر الله لها، فكيف بالإنسان؟! فكيف بالمؤمن؟! فكيف بالقريب؟! فكيف بالجار؟ دلالة الجمع بين الصلاة وأداء حق السائل والمحروم ((لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ))[المعارج:25]، وبعض الناس يمكن أنهم يصلون، في صلاتهم دائمون، لكن المال لا، لا تقربوه، لهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والصدقة برهان)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس ربما تجده مصلياً في المسجد، لكن إذا اختبرته في المال في تجارة أو أمانة أو معاملة أو دين بانت حقيقته، وبعضهم يفشل وإن كان ظاهره التدين والالتزام، لكن يفشل عندما يكون المحك الدرهم والدينار؛ ولهذا جمع الله تعالى بينهما. إشراقات في قوله تعالى: (والذين يصدقون بيوم الدين) قال: ((وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ))[المعارج:26]، يؤمنون به وليسوا كالذين يستعجلونه، يصدقون به يعني: يؤمنون بأنه حق، ويوم الدين هو يوم الجزاء والدينونة، الدين هو الحساب، هو الجزاء، فهم يصدقون بهذا اليوم ويؤمنون به. إشراقات في قوله تعالى: (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون...) قال سبحانه: ((وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ))[المعارج:27]. وليس فقط يصدقون؛ لأن التصديق قد يكون إيماناً عقلياً جافاً جامداً غير مؤثر؛ ولهذا عقب بقوله: ((وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ))[المعارج:27] خائفون وجلون.ولاحظ هنا كيف الفرق بين أولئك المستعجلين وبين هؤلاء الذين يخافون عذاب الله ولا يستعجلونه، وإنما يدعون الله تعالى بأن يدفعه عنهم، ولهذا قال سبحانه: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))[الرحمن:46]، فإن العبد المؤمن إذا صدق بيوم الدين لابد أن يكون عنده نوع من الخوف، ولو في بعض الأحيان عند المعصية وعند الخطأ وعند التقصير وفي بعض الحالات، أو إذا ضاقت به المضايق أو أصابه حال معين تذكر ذلك اليوم وخاف. معنى قوله تعالى (إن عذاب ربهم غير مأمون) ودلالاته التربوية قال الله عز وجل: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ))[المعارج:28]، فعذاب الله تعالى ليس بمأمون، و((لا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ))[الأعراف:99]، وقد سئل الحسن رضي الله عنه عن النفاق فقال: [والله ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]، فأنت تجد المؤمن يخاف، مهما كان يكون عنده خوف؛ لأن الله عز وجل يقول: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ))[المعارج:28]، هو ربهم سبحانه، وهو بهم رحيم وحليم، يمهلهم وينظرهم ويعفو عنهم ويسترهم ويعافيهم ويغفر لهم ويرزقهم، هو ربهم، ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ))[المعارج:28]، والظن بأن الله تعالى إذا وافاه العبد وعنده هذه الروح من الإشفاق أن الله تعالى يغفر له ويعافيه ولا يعذبه، وقد جاء في الحديث: (أن رجلاً كان صاحب ذنوب ومعاص، فحاسبه الله تعالى يوم القيامة فكان من أهل النار، فقال الله عز وجل: اذهبوا به إلى النار، فلما ولى بكى - صاح- فقال الله عز وجل وهو أعلم: ردوه. فردوه إلى ربه سبحانه، فقال الله له: ما يبكيك يا عبدي؟! قال: يا رب! ما كان هذا ظني فيك) ما كانت هذه طلبتي وظني فيك، (قال الله عز وجل: فماذا كان ظنك بي؟! قال: كان ظني بك أن تغفر لي وتدخلني الجنة. فقال ربنا سبحانه: قد فعل) .فعلى العبد أن يلامس قلبه شيء من الشعور بالإشفاق من عذاب الله، وأن عذاب الله تعالى غير مأمون، وأنه حتى الرسل والأنبياء يقولون: (اللهم سلم سلم)، فما بالك بمن دونهم؟!ولعل هذا يكون سبباً في منجاة العبد وفي مرضاة الرب جل وعز. إشراقات في قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون ...) مناسبة الآية لسابقتها قال: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ))[المعارج:29]، وهذا له اتصال بالإشفاق والخوف، فإنه لا شيء يردع الإنسان عن الشهوة إلا خوف من الله ومن عذابه؛ لأنها معصية، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن). فالخوف من عذاب الله هو خير رادع عن الوقوع في المعاصي والذنوب والفواحش والشهوات؛ ولهذا قال: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ))[المعارج:29]. المقصود بحفظ الفروج والمقصود بحفظ الفروج حفظها من النظر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بهز بن حكيم : (احفظ فرجك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك) . فالنظر إلى العورات لا يجوز إلا لحاجة أو ضرورة.وكذلك من حفظهم للفروج حفظ فروجهم عن الفواحش وارتكاب المحرمات في حق الناس؛ ولهذا قال سبحانه: ((إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ))[المعارج:30]، يعني: مع أزواجهم. ((أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ))[المعارج:30]. مما كان ملك اليمين، وهي الأمة. رفع الحرج عن قضاء الشهوة في الحل المباح قال الله عز وجل: ((فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ))[المؤمنون:6]، وسبحان ربي! هذا التعبير العظيم، ((فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ))[المؤمنون:6] لأن عادة الإنسان أنه مهما كان يجد في نفسه أحياناً نوعاً من الاستقذار للعلاقة الجنسية، بل كثير من الناس يشعرون بهذا الشعور النفسي ويأنفون منه؛ فلهذا ربنا سبحانه قال: ((فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ))[المؤمنون:6]، يعني: هذا اللوم الذي يجده الإنسان في نفسه عليه أن يدفعه ما دام الأمر في حلال، وفيما أحل الله، والرسل عليهم الصلاة والسلام جعل الله تعالى لهم أزواجاً وذرية، ولهذا الإسلام جاء ليهذب الغرائز وليرتقي بها، بحيث لا يشعر الإنسان أن الغريزة أو أن العلاقة الجنسية شيء مستقذر أو ممقوت أو مكروه ما دامت في الحلال، بل عليه أن يشعر بأن هذا شيء له فضيلة، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه صدقة، قال: (وفى بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).هذا تسام ورقي؛ ولهذا قال: ((فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ))[المؤمنون:6]، لا يلومون أنفسهم ولا يلومهم أحد، والله تعالى يأجرهم على ذلك ويثيبهم. معنى قوله تعالى (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) قال سبحانه: ((فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ))[المعارج:31] أبعد من ذلك بالزنا والفواحش وغير ذلك.((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ))[المعارج:31] الذين تعدوا حدود الله سبحانه وتعالى فعوقبوا، وجعل الله تعالى هذه من صفات المؤمنين. إذاً: هذا جانب أخلاقي يتعلق بموضوع العلاقة الجنسية بالآخرين. إشراقات في قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) ثم انتقل إلى أمر آخر، وهو قوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ))[المعارج:32]، الأمانة مع الناس، سواء كانت أمانة المال أو السر أو العلاقة أو العهد والميثاق، قال الله سبحانه وتعالى: ((وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا))[النحل:91].وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، وفي الأمانة الله سبحانه وتعالى قال: ((وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))[الأحزاب:72].وهنا قال: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ))[المعارج:32] لماذا؟ لأنهم مصلون؛ ولهذا ليسوا هلوعين، أما الهلوع فهو ليس كذلك.إذاً: الإيمان يربي الإنسان على حفظ العهد والأمانة حتى مع الكافر والفاجر، (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك).اليوم -مع الأسف الشديد- قد تجد من المسلمين -بل من يتظاهرون بالصلاح- ويكونون بين أقوام كافرين فيستحلون دماءهم، ويدخلون معهم بموجب العهد والأمانة والميثاق والأوراق الثبوتية الرسمية، ثم يغدرون بهم ويسرقون ويغشون ويكذبون، وهم بذلك يزعمون أنهم مؤمنون، كيف يكون؟كيف يعمل المسلم مثل هذا؟! كيف تدعو الناس إلى الإسلام وأنت تمد يدك لجيوبهم ومحافظهم لتسرق ما فيها؟!كيف تدعي الإيمان وأنت تكذب؟! كيف تعاهد الناس عهوداً ومواثيق وتخونها؟!بينما كان حتى في الجاهلية من أشراف الناس من يعتبرون أن هذه علامات الرجولة، فلا يغشون ولا يكذبون، وإذا التزموا بعهد أو ميثاق وفوا به، كما في قصة أبي سفيان مع هرقل ، فقال الله سبحانه وتعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ))[المعارج:32].إذاً: القصة ليست فقط أن الإنسان يصلي في المسجد ثم يعتقد أنه انتهى الأمر، لا، الصلاة عنوان ومدخل، وبني على الصلاة مجموعة من الصفات إذا ما تحققت عليك أن تعيد النظر في صلاتك، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: [من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً]، وهذا لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بحديث ، لكن في القرآن: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))[العنكبوت:45]. إشراقات في قوله تعالى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون) ((وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ))[المعارج:33]، الشهادة أن يشهد لأحد أو على أحد، فيقوم بها، سواء كانت هذه الشهادة لقريب أو بعيد، كما قال سبحانه: ((وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ))[النساء:135]، ولو على نفسك، ((أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا))[النساء:135]، لا تبال في موضوع الشهادة، قال سبحانه: ((وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ))[البقرة:283]، انظر الإثم أين؟ في القلب، إذاً: تؤدي الشهادة عامة أو خاصة، طبعاً من أعظم الشهادة شهادة أن لا إله إلا الله، من أعظم الشهادة أن يكون المسلم قدوة لغيره في الأخلاق، فيشهد بحق على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. إشراقات في قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) دلالات قوله تعالى (يحافظون) ثم ختم بمثل ما بدأ به: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ))[المعارج:34]، هناك قال: ((دَائِمُونَ))[المعارج:23] مستمرون، هنا قال: ((يُحَافِظُونَ))[المعارج:34]. فعل مضارع، يدل على أنهم مستمرون على الصلاة، ويدل على تجدد اهتمامهم بالصلاة، ويدل على أن عنايتهم بالصلاة ليست فقط استمراراً في الأداء، وإنما هي عظمة في العبادة، فهم يحافظون على الصلاة فيما يتعلق بشروطها وما قبلها من الطهارة والاستعداد والتبكير، ويحافظون على الصلاة فيما يتعلق بأداء الصلاة أثناء الأداء، من أداء الأركان والقيام والقعود والركوع والسجود والخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والأذكار والقرآن والتسبيح والدعاء، وغير ذلك من المعاني، وأيضاً المحافظة على الصلاة فيما بعدها، يعني: صلى، فيحافظ على صلاته أنها لا تضيع، تذهب لفلان الذي اغتبته، وفلان الذي شتمته، وفلان الذي سرقته، ويعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، حصلت صلاة حافظ عليها، لا تضيعها لا تبذرها، لا توزعها على الناس، فهنا قال: ((عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ))[الأنعام:92] قبلها ومعها وبعدها. إشراقات في قوله تعالى: (أولئك في جنات مكرمون) ((أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ))[المعارج:35]، انظر هذا الوعد المطلق العظيم ممن يملك سبحانه، مقابل ((لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى))[المعارج:15-16] لأولئك القوم الذين جمعوا الأموال لكن لم تنفعهم، هؤلاء المؤمنون الذين أنفقوا الأموال في سبيل الله وأطاعوا الله وما أدبروا ولا تولوا، الله سبحانه وتعالى يعدهم بهذا الوعد، والله لا يخلف الميعاد، ((أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ))[المعارج:35]، هم في الجنات. ما قال: في جنة، ((فِي جَنَّاتٍ))[المعارج:35]، ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ))[القمر:54]، ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))[الرحمن:46]، ثم قال سبحانه وتعالى: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ))[الرحمن:62]، فهي أربع جنان أو أكثر من ذلك.((مُكْرَمُونَ))[المعارج:35] فيها ألوان الكرامة، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هذا لمن استطاعوا أن يهذبوا أنفسهم وأخلاقهم وأعراقهم. إشراقات في قوله تعالى: (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين...) قال سبحانه وتعالى: ((فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ))[المعارج:36]. لماذا هؤلاء الكافرون حولك -يا محمد-! مهطعين؟ يدورون، يمشون، وعادة المهطع هو الذي يمشي بسرعة وهو رافع الرأس، إما على سبيل الكبر أو على سبيل الاستهزاء أو السخرية، فالله سبحانه وتعالى يقول: لماذا؟ ما الذي يحمل هؤلاء الكافرين على أنهم يكونون حولك، كما قال: ((وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ))[القلم:51]، مهطعون بهذه المشية الغريبة المستنكرة. معنى قوله تعالى (عن اليمين وعن الشمال عزين) ((عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ))[المعارج:37] بعضهم عن يمينك وبعضهم عن شمالك، يعني: وبعضهم أمامك وبعضهم وراءك، فإنه قد يكتفى باليمين والشمال عما وراءهما، كما قال الشاعر: ولقد أراني للرماح رديئة من عن يميني تارة وأمامي يعني: أحيانا أمامي أو عن يميني أو ورائي أو عن شمالي.فهم يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: ((فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ))[المعارج:36]، يعني: في جهتك. ((عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ))[المعارج:37] جمع، والمفرد: عزة، فئة يعني، جماعات وأوزاع متفرقة، أحد هنا وأحد هنا وأحد هنا، وناس يتلفتون هنا وناس ينظرون هناك، وكما ذكر الله تعالى في سورة المطففين ((وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ))[المطففين:30-32] أشاروا إليهم و((قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ))[المطففين:32].ربنا سبحانه يقول: الكبر هذا الذي عندهم لماذا؟ما لهم مهطعين؟! لماذا هم متكبرون؟! المسوغات التي تجعلهم يتكبرون، المؤهلات التي تمنحهم الكبر: أموالهم، أولادهم، ما جمعوا وأوعوا. الاستهزاء العظيم بالكفرة المكذبين ((أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ))[المعارج:38]، هذه سخرية من الله بهم، هي تهز الوجدان هزاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: كل واحد منهم يطمع، طامع متوقع أنه يدخل جنة نعيم، كأنه لوحده في الجنة، كأن الجنة له وحده أيضاً، كل واحد له جنة لوحده.هذا من معاني قوله: ((جَنَّةَ نَعِيمٍ))[المعارج:38]، ولهذا لم يقل: (جنة النعيم) المعهودة المعروفة، لا، ((جَنَّةَ نَعِيمٍ))[المعارج:38]، كل واحد منهم ينتظر أن يكون له جنة نعيم لوحده، هذا الكبرياء، لماذا؟أليسوا هم من الهلوعين الجزوعين المنوعين؟ هذا يؤهلهم لجنة النعيم؟!أليسوا ممن أدبر وتولى وجمع فأوعى؟ هذا يؤهلهم لجنة النعيم؟! لا.ولهذا قال ربنا سبحانه: ((كَلَّا))[المعارج:39] ما يأتيهم هذا ولا يتحقق لهم.ثم يقول سبحانه: ((إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ))[المعارج:39]، هم يخبرون ويعلمون ويعرفون الشيء الذي خلقوا منه، وهو لا يؤهلهم -قطعاً- لجنة النعيم ولا لغيرها أيضاً، لكنه ماء مهين، ((خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ))[الطارق:6]. ((أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))[المرسلات:20]، خلق من نطفة ثم مضغة ثم علقة، إذاً: هو شيء حقير صغير دنيء، ويكفي أن تعلم أن دفقة واحدة من هذا الماء يوجد فيها عشرات الملايين أحياناً من هذه الحيوانات، أنت واحد منها فقط، اختارك ربك سبحانه واصطفاك ورقاك في المدارج، حتى أصبحت إنساناً كبيراً ذا شأن ومكانة، ورسل تبعث إليك وملائكة تنزل وقرآن يخطابك، ورب يناديك ويناجيك ويدعوك: ((لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا))[الزمر:53]. فيقول سبحانه: ((إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ))[المعارج:39]، يعني: ونعيدهم مرة أخرى، مثلما خلقهم أول مرة ينشئهم سبحانه فيما يعلمون وما لا يعلمون يوم القيامة. إشراقات في قوله تعالى: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ... ) ولهذا ينتقل السياق حينئذ ليقول ربنا سبحانه: ((فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ))[المعارج:40]، وهذا قسم كما بيناه في سورة ((لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ))[القيامة:1]، أن الله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ))[المعارج:40]، يعني: يستنكر الله تعالى ما يحدث منهم وينفيه، ويقسم عز وجل بذاته العلية، وأنه رب المشارق والمغارب، يعني: مشارق الشمس ومغاربها، وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً، وثلاثمائة وستون مغرباً في كل يوم، لا تتكرر، أو مشارق الشمس والقمر والنجوم ومغاربها؛ لماذا؟ لأن الأمر يتعلق بالإعجاز والقدرة؛ ولهذا جاء بالجمع هنا، وأيضاً يتعلق بهؤلاء الناس الذين لا يحصي عددهم إلا الله؛ ولهذا قال: ((إِنَّا لَقَادِرُونَ))[المعارج:40]، هذه القدرة، ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ))[المعارج:41]. دلالات إفراد ذكر المشرق والمغرب وتثنيتهما وجمعهما في سورة الرحمن قال: ((رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ))[الرحمن:17]؛ لأن سورة الرحمن كانت تخاطب الجن والإنس، وفيها الأشياء مثنى مثنى، في الموضع الثالث في قوله سبحانه في سورة المزمل: ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ))[الشعراء:28]، فذكره مفرداً؛ لماذا؟ لأن المقام مقام التوحيد، وحدانية الله سبحانه وتعالى، لهذا قال: ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا))[المزمل:9]، إذاً: هنا الله عز وجل يقسم بذاته العلية وربوبيته وخلقه للمشارق والمغارب بهذا العموم الذي لا يند عنه شيء، فهذا يشمل الكون كله، ((إِنَّا لَقَادِرُونَ))[المعارج:40]، فآمنا بربنا جل وعز وقدرته. معنى قوله تعالى (على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين) ((إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ))[المعارج:40-41]، هذا معناه: أن يزيلهم الله وينسخهم ويمحوهم ويأتي بمن هم أفضل منهم، كما قال سبحانه: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))[محمد:38]، ويحتمل معنى آخر وهو أجود، أن يكون المقصود أن نأتي بهم يوم القيامة فنعيد خلقهم أقوى وأحسن مما خلقناهم في الدنيا، هنا قال: ((أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا))[المعارج:41]، وفي الآية الأخرى قال: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمَْ))[الواقعة:61]، ولهذا قال سبحانه: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ))[الواقعة:60]، وفي الآية الأخرى قال: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ))[الواقعة:61]، فالمقصود: ((نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ))[المعارج:41] يعني: نعيد خلقهم في الآخرة بطريقة أعظم مما في الدنيا، إذا كانوا يستغربون إعادة الإنسان كما هو في الدنيا؛ فالله تعالى يعيدهم يوم القيامة بأعظم؛ ولهذا قال: ((نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا))[الإنسان:28] إذا شئنا يوم القيامة؛ ولذلك لم يقل: وإن شئنا، قال: ((وَإِذَا شِئْنَا))[الإنسان:28] يعني: شيء قادم، ((بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا))[الإنسان:28]، خلقناهم مرة أخرى بخلقة أخرى مختلفة أقوى وأعظم، ولهذا الإنسان يخلق يوم القيامة خلقاً أعظم مما هو في الدنيا في طوله وعرضه، وورد أنهم في صورة أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، فخلقهم أعظم؛ ولهذا قال: ((وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ))[الإنسان:28] في الدنيا، ((وَإِذَا شِئْنَا))[الإنسان:28] يوم القيامة ((بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا))[الإنسان:28].وهنا وجدت أن الإمام ابن القيم رحمه الله قال هذا المعنى ووافق الإمام الزمخشري عليه، مع أن بين ابن القيم والزمخشري بوناً شاسعاً، فهذا معتزلي وهذا سلفي، والإمام ابن القيم ذكر قول الزمخشري ووافقه عليه واستحسنه ، مما يدل على العدل والإنصاف وأخذ الحق من كل أحد، قال الله سبحانه وتعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ))[الواقعة:60]، لا أحد يعجز الله سبحانه وتعالى . إشراقات في قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون...) ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ))[المعارج:42]، اتركهم، لا تأس عليهم ولا تحزن، اصبر وذرهم يخوضوا، وهذا ليس أمراً متعلقاً بقتالهم أو عدم قتالهم، فالبعض يقولون: مثل هذه الآيات منسوخة بآية السيف، وزعم بعضهم أن آية السيف نسخت أكثر من سبعين آية! وهذا غلط، حتى آية السيف ليست محددة، ولا معروف بالضبط والاتفاق ما هي؟ وإنما هذه توجيهات إلهية للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يحزن عليهم، وأن يعرض عنهم، وأن يتركهم وما هم فيه، مع القيام بالدعوة ؛ ولهذا قال: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا))[المعارج:42] في هذه الدنيا، فاعتبر أن الدنيا لعب كلها كذلك، وأما الخوض: فهو الكلام في الأمور التي لا يحسنها الإنسان، ((وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا))[التوبة:69]، إنسان كلما ذكر له موضوع تكلم فيه وخاض فيه، يعرف أو لا يعرف، بالحق وبالباطل، بحجة وبغير حجة، هذا يسمى خوضاً، ((حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ))[النساء:140]. قال: ((يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا))[المعارج:42] فاعتبرهم مثل الصبيان الذين يلعبون، غافلون غارون، ((حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ))[المعارج:42]، وكأن هذا اليوم إنسان حي يلاقونه، وينتظرهم وينتظرونه، وهو يسعى إليهم كما يسعون هم إليه، ولهذا قال: ((يُلاقُوا))[المعارج:42]، في بعض القراءات (يلقوا) ، لكن لما تقول: (يلاقوا) يعني: هؤلاء جاءوا إلى اليوم واليوم جاء إليهم أيضاً. وهذا دليل على السرعة.((يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ))[المعارج:42]. يوعدون ويستعجلون. ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ))[المعارج:1]. دلالة تشبيه حال الكفرة في خروجهم مسرعين من القبور قال الله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ))[المعارج:43] القبور، ((سِرَاعًا))[المعارج:43] سريعين مهطعين، سبحان الله! ((سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ))[المعارج:43]، النصب هو: التمثال، هو الصنم، وانظر كيف أن الله سبحانه وتعالى عبر بالنصب؛ لأنهم أهل أوثان وأصنام، في يوم القيامة يشبهون كأنهم في الدنيا رأوا نصباً رأوا صنماً، فهم يوفضون إليه ويركضون ويسرعون مهطعين، فهذا من مكر الله تعالى بهم. معنى قوله تعالى (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) ((خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ))[المعارج:44] في الدنيا ما هي بخاشعة أبصارهم؛ ولهذا ذكر سبحانه عنهم هنا سؤالهم، وذكر قوله: ((فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ))[المعارج:36-37]، وفي سورة (ن) قال: ((وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ))[القلم:51]، يعني: ينظرون نظراً شديداً قوياً، في ذلك الموقف يوم القيامة لا، ((خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ))[المعارج:44]، ولم يقل: خاشعين، مع أنه في آية أخرى: ((خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ))[الشورى:45]، إشارة إلى أن الخشوع هنا ليس خشوع الإيمان الذي كان يطلب منهم في الدنيا وفي الصلاة، و((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ))[المؤمنون:2]، وإنما هو خشوع الذل والاضطراب والخوف.((خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ))[المعارج:44]، يعني: تغشاهم وتصيبهم وتغمرهم من كل مكان ((ذِلَّةٌ))[المعارج:44]، انظر: من لم يذل في الدنيا لربه أذله الله تعالى يوم القيامة بالعذاب، ومن ذل لله وعفر جبهته لجلاله واستغفره واعترف له، فإن الله تعالى يحفظه يوم القيامة ويمنحه العز. دلالات في قوله تعالى (ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) قال الله سبحانه وتعالى: ((ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ))[المعارج:44]، انظر! عجب، ((ذَلِكَ))[المعارج:44]، ذلك دائماً إشارة إلى البعيد، هو عندهم بعيد، ((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا))[المعارج:6]، لكن لما يقول سبحانه: ((الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا))[المعارج:44] (كانوا) دليل على أنهم كانوا يوعدون في الدنيا، إذاً: هم في اليوم الآن موجودون فيه، لأنه ((كَانُوا يُوعَدُونَ))[المعارج:44]، وها هو اليوم، فإشارة (ذلك) إلى أنهم كانوا يستبعدونه، وقوله: ((كَانُوا يُوعَدُونَ))[المعارج:44] دليل على أن اليوم موجود، وهو قائم، انظر إليه، إنما كانوا يوعدون بذلك اليوم في الدنيا، وها هو قد تحقق أمام نواظرهم، فتبدأ السورة باستعجالهم في العذاب وتنتهي بالإشارة إلى هذا اليوم الذي كانوا يستعجلونه، وكانوا يوعدونه.سبحانك اللهم وبحمدك.