ÇáÑÆíÓÉ ›دروس›إشراقات قرآنية›جزء تبارك›سورة الحاقة سورة الحاقة الاثنين 5 رمضان 1436هـ طباعة د. سلمان العودة 6320 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص بين يدي سورة الحاقة اسم السورة ومكان نزولها وبيان عدد آياتها بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، سيدنا وإمامنا محمد، وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.يقول ربنا سبحانه: ((الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ))[الحاقة:2]، هذه السورة اسمها (سورة الحاقة) عند المفسرين والمحدثين والعلماء. وذكر الفيروزآبادي في كتابه بصائر ذوي التمييز أن من أسمائها سورة السلسلة؛ لأنه ذكر فيها سبحانه: ((ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ))[الحاقة:32]. وهي سورة مكية بإجماع العلماء، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بـمكة . وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية. يستهل ربنا سبحانه هذه السورة الهائلة العظيمة بقوله: ((الْحَاقَّةُ)) وسبحان الله! هذه الكلمة فيها المد المثقل، فكأن الإنسان لما يمد الألف -(الحا)- ثم تأتي القاف المشددة كأنه ينزل بالثقل مرة أخرى: ((الْحَاقَّةُ))؛ ولذلك سميت بهذا الاسم. إشراقات في قوله تعالى: (الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة) واستفتح الله سبحانه وتعالى السورة بهذا اللفظ المعبر، ولم يبين ما هي الْحَاقَّةُ. يعني: هذا وصف لموصوف محذوف قد لا يكون معروفاً أول الأمر ما هي الْحَاقَّةُ؟الْحَاقَّةُ: مأخوذة من الحق. إذاً: هو شيء يحق، وكلمة ( يحق ) معناها: يقع؛ ولهذا سماها الله تعالى (الواقعة) أيضاً: ((إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ))[الواقعة:1]، وذكر من أسمائها في هذه السورة أيضاً: (الواقعة): ((فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ))[الحاقة:15].إذاً: هي شيء يحق، كما قال ربنا سبحانه: ((لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ))[يس:70].إذاً: من معاني الْحَاقَّةُ: أنها شيء سوف يقع، وعد حق لا يتخلف. هذا أولاً. ثانياً: قد يقع في الكون أشياء كثيرة جداً من الخير والشر والحق والباطل، لكن الله سبحانه وتعالى هنا بين أن الأمر المتحدث عنه يقع وهو حق لا ريب فيه، حق من حيث إنه من كمال العدل؛ فإن الدنيا تنتهي وفيها الظالم والمظلوم، وفيها المخطئ والمصيب، وفيها أنواع وأصناف من الناس لم يتم الانتصاف منهم ولا الانتصار، وفي الدنيا أسئلة كثيرة ما عليها جواب، وفي الدنيا بدايات لم تنته، وفي الدنيا وعود ما تحققت، وفي الدنيا أحلام وتمنيات وتطلعات لأناس كثيرين ما حصلت لهم؛ فكان من حكمته سبحانه وعدله أن تكون الآخرة حقاً أيضاً، وتكمل الصورة، وتعدل الميزان، وتقيم القسط. إذاً: هي حاقة من حيث كونها من مقتضى العدل والحكمة الإلهية. وهي أيضاً حاقة بمعنى: أن الله تعالى يحق فيها الحق، ويبطل فيها الباطل، في الدنيا جدل كثير وأسئلة وأقاويل ومنازعات وخصومات، والبشر فيها يتنازعون، ومن حكمة الله أن جعل الدنيا كذلك؛ لأن هذه المنافسات من أسباب قيام الدنيا، أنت ترى الآن كلما استطعت أن توجد منافسة بين عدة أطراف تحمسوا لهذا العمل، كل يتحمس لما هو عليه؛ فمن حكمة الله أن الله تعالى جعل للبشر في هذه الدنيا طرقاً شتى: ((كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا))[الجن:11]، ويسر كلاً لما خلق له، وأقام على الجميع حجته الباهرة سبحانه، لكن في الآخرة يحق الحق، ويبطل الباطل، وينتصف الله تعالى لكل أحد، وينتصر للحق ويقيم القسط والميزان، ولهذا سميت (الْحَاقَّةُ) أيضاً. بعض أسماء يوم القيامة إذاً: (الْحَاقَّةُ): هي القيامة، هي الساعة. وقد ورد لها أسماء عديدة مشابهة في القرآن الكريم، مثل قوله: ((الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ))[القارعة:1-3]، لكن بينهما فرق، (الْقَارِعَةُ) لفظها خفيف، ليست مثل: (الْحَاقَّةُ)، (الْقَارِعَةُ)، ولكن معناها عظيم؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها، وتقرع الآذان أيضاً بصوتها. وسماها الله سبحانه وتعالى (الصَّاخَّةُ)، وسماها (الطَّامَّةُ)؛ فلها أسماء كثيرة جداً في القرآن الكريم، اختار الله تعالى لها هنا اسم (الْحَاقَّةُ). ما تضمنه قوله تعالى (وما أدراك) من تهويل شأن الحاقة وتعظيمه ثم قال سبحانه: ((مَا الْحَاقَّةُ))[الحاقة:2]، وهذه صيغة قرآنية متكررة، مثل قوله سبحانه هنا: ((الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ))[الحاقة:1-3]، كما في قوله أيضاً: ((الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ))[القارعة:1-3]، هو سؤال إثر سؤال : ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ))[القدر:2]، ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ))[الانفطار:17-18]، ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ))[القارعة:10].إذاً: المقصود: التعظيم والتهويل للأمر، فقال: ((مَا الْحَاقَّةُ))[الحاقة:2] بعدما أخبر الله تعالى وقال: ((الْحَاقَّةُ))[الحاقة:1]، وجاءت هكذا، يعني: آية مستقلة: (الْحَاقَّةُ)، ثم توقفت الآية وجئنا بآية أخرى: (مَا الْحَاقَّةُ) سؤال، الله تعالى يسأل وهو أعلم، وإنما المقصود بالسؤال: التهويل والتعظيم، وتوجيه الإنسان إلى أنه ينبغي أن يسأل: (مَا الْحَاقَّةُ)؛ لأن لغة البشر عادةً تقف عاجزة، وتقصر عن التعبير عن بعض المعاني التي لا يعرفها البشر، الناس يعرفون بعض الأشياء؛ لأنهم رأوها بأعينهم، أو يعرفون أشياء أخرى؛ لأنهم رأوا شيئاً يشبهها أو شيئاً مثلها، ويعرفون بعض الأشياء؛ لأنهم رأوا أناساً رأوها وشاهدوها فوصفوها لهم، لكن الأمر هنا بالنسبة للحاقة شيء عظيم ما رأوه ولا رأوا مثله، ولا رأوا أحداً رآه فيصفه لهم، إنه من أمر الغيب، ولكن الأمر بالغ في الضخامة والهول مبلغاً لا يعلمه إلا الله. ولهذا قال: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ))[الحاقة:3]، يعني: لا تدري ولا أحد يدريك. بعض أسرار (ما أدراك) و(ما يدريك) وعادةً إذا جاءت هذه الصيغة: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) فإن الله تعالى يجيب عن هذا السؤال بجواب يزيد الأمر هولاً، كما في قوله: ((الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ))[القارعة:1-4] هذا جواب، أو: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ))[القارعة:10-11]، أو قوله سبحانه: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ))[القدر:2-3]؛ فهو جواب ولكنه يزيد الأمر هولاً وعظمة، أما إذا جاء اللفظ: (وَمَا يُدْرِيكَ)كما في القرآن؛ فإن الأمر يختلف؛ فإنه قد يدل على نفي العلم، كما في قوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يعني: لست تدري، ويكون متضمناً للإثبات، كلمة: (وَمَا يُدْرِيكَ) في القرآن عادةً تكون متضمنة لإثبات جواب، مثل قوله سبحانه: ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ))[الشورى:17] يعني: هناك إشارة في الآية إلى أن الساعة قريبة، كما في قوله: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ))[الأنبياء:1]، ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ))[القمر:1]، أما إذا قال: (وَمَا أَدْرَاكَ) فإن الله تعالى يأتي بجواب يزيد الأمر صعوبة وهولاً، كما قال هنا: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ). إشراقات في قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة...) ثم ترك الجواب المباشر وقال: ((كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ))[الحاقة:4]، والْقَارِعَةُ هي: الْحَاقَّةُ، هي القيامة، لكنه ذكر لها اسماً آخر إمعاناً في تهويلها وتعظيمها، وملء العقول والأسماع والقلوب بهولها، لم يقل: كذبت ثمود وعاد بها، ولم يقل: بالحاقة؛ لأن التكرار إذا زاد على ثلاث فهو مكروه في لغة العرب؛ ولهذا نوع وغير سبحانه فقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ)، فجاء باسم جديد لها.وذكر الله ثمود وعاداً لأنها قبائل عربية، فهي من العرب العاربة، من العرب الذين كانوا ثم بانوا وبادوا وانتهوا، وهم معروفون ومساكنهم قريبة من قبائل العرب الموجودة في الشمال وفي الجنوب من مكة ، فالعرب كانوا يمرون عليهم ويشاهدون الآثار والمعالم، ويدركون العظمة التي كانوا عليها، عظمة الأجسام وعظمة البناء وعظمة التأسيس؛ فهذا يعطيهم درساً للعقاب الذي نزل بهم. وذكر الله تعالى هاتين القبيلتين العربيتين: ثمود وعاد، يعني: هذا فيه تنبيه لقريش أنه لستم أكثر منهم ولا أقوى منهم، فهم يقولون: ((مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً))[فصلت:15]، فالله تعالى يضرب لهم المثل بأمم هي أشد منهم قوة، ومع ذلك كانوا أشد منهم قوةً وأكثر آثاراً، وأيضاً فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه: ((فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا))[مريم:84]، فإن آمنوا وإلا فإن العقاب ينتظرهم. هلاك ثمود بالطاغية ثم رجع السياق للتفصيل بعد الإجمال: ((كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ))[الحاقة:4]، فرجع إلى التفصيل، قال: ((فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ))[الحاقة:5]، وثمود ديارهم تقع في الحجر في شمال الجزيرة العربية على ما هو معروف، وهم قوم صالح، وكانت ولا زالت آثارهم موجودة إلى اليوم، فكانوا أشداء أقوياء: ((وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ))[الشعراء:149]، فالله تعالى ذكر عقابهم وأنهم أهلكوا (بِالطَّاغِيَةِ).وقد يكون المقصود (بِالطَّاغِيَةِ): الصيحة كما في مواضع أخرى، فهي صيحة ضربتهم فأهلكتهم عن بكرة أبيهم، وفي عذابهم أقوال أخرى، المهم قوله سبحانه: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) يعني: أهلكوا بصيحة شديدة هائلة طاغية كبيرة؛ وفي ذلك إشارة ضمنية إلى جريمتهم؛ لأن جريمتهم كانت هي الطغيان؛ والجزاء -عادة- من جنس العمل؛ فلأنهم طغوا وكفروا وكذبوا نبيهم صالحاً عليه الصلاة والسلام ((وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ))[الأعراف:77]، فبلغ بهم الطغيان مبلغه؛ فكان عقابهم (بِالطَّاغِيَةِ) الصيحة التي قضت عليهم وأهلكتهم عن بكرة أبيهم، وترك الله تعالى بيوتهم عبرة، فسبحان الله! أن تبقى آثارهم تدل عليهم: تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار هلاك عاد بالريح الصرصر العاتية (وَأَمَّا عَادٌ): (وأما) هذا للتقسيم والتنويع، ثمود أهلكوا بهذه الطريقة، (وَأَمَّا عَادٌ)، وعاد في جنوب الجزيرة العربية ، وهم معروفون أيضاً، وكانت العرب تسمع أخبارهم وترى آثارهم أحياناً، فإذا ذهبوا إلى الشام رأوا آثار قوم ثمود، كما قال سبحانه: ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ))[الصافات:137-138].وكذلك آثار قوم لوط وغيرهم، فهم يرون هذه الآثار، ويعرفون بعض القصص التي ظلت موجودة في الذاكرة أو في الكتب السابقة، فهنا قال سبحانه: ((وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ))[الحاقة:6] يعني: الإهلاك من الله سبحانه وتعالى، ولكن قد يكون بواسطة الملائكة أو بواسطة سبب من الأسباب التي يشاؤها ويريدها الله عز وجل. قال: ((فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ))[الحاقة:6] ريح شديدة، وقد جاء عن جماعة من السلف أن الله تعالى فتح عليهم هذه الريح حتى عتت على خزانها، وضربتهم وعصفت بهم وأسقطتهم. معنى الريح الصرصر ووصف هذه الريح بأنها صَرْصَرٍ، الريح الصرصر: هي التي تصر، لها صوت، وتسمع أحياناً ماذا تصنع الرياح إذا عصفت بالأبواب والنوافذ والجدران والآثار الموجودة؟! فيكون للريح صوت صفير مخيف مرعب، فهذا من معنى (صَرْصَرٍ).وأيضاً: الريح الصرصر أو الصِرّ: هي الريح الباردة، فهي ريح عاصف شديدة لها صوت، وهي أيضاً باردة جداً، وهذا مما يزيد الريح خطورة؛ ولذلك كان العرب يقولون: الريح الصر كانت تهلك الحرث والنسل، كما قال سبحانه: ((كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ))[آل عمران:117]، وكان الشاعر يقول لغلامه -كما في قصة عنترة -:أوقد فإن الليل ليل قرٌ والريح يا موقد ريحٌ صرٌحتى يرى ناري من يمر إِن جلبت ضيفاً فأَنت حرفهم يخافون من الريح الصر ويدرون معناها، فقال: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ): باردة وذات صوت، وهي أصلاً ريح يكفي أن ربها وصفها بكونها عَاتِيَةٍ: ((بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ))[الحاقة:6]، يعني: بالغة في الشدة مبلغها، (عتا)، وهذا أيضاً فيه إشارة إلى جريمتهم مثل قوم ثمود، قال هنا: عاتية؛ لأنهم عتوا عن أمر ربهم؛ فجاءتهم الريح العاتية، وعاقبهم الله تبارك وتعالى بها. مكر الله تعالى بعاد في إهلاكهم بالريح ((سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ))[الحاقة:7]، وهذا من إعجاز القرآن ومن مكر الله بأعدائه، فإنه يقول سبحانه: (( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ )) أصل الريح مسخرة للإنسان، وفي القرآن مواضع يذكر الله تعالى هذا المعنى، الرياح ((مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ))[النحل:79]، أي: يرسل الرياح مسخرات، ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ))[فاطر:9] فالرياح أو الريح تكون مبشرات، وتكون مثيرات للسحاب، وتكون لمصالح عظيمة، لكن هنا قال: (ريح) واحدة، دليل على أنها عقيم؛ ولهذا قال: ((إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ))[الذاريات:41]، هي واحدة فقط ليست رياحاً يلقح بعضها بعضاً، ويعزز بعضها بعضاً، وإنما هي ريح واحدة، وقد جاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا هبت أو عصفت الريح يقول: اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً)، وهذا ليس بصحيح، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه واضح في لغة القرآن، أن القرآن يذكر الريح للعذاب، ويذكر الرياح في الغالب للرحمة: ((أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ))[الروم:46]، ((فَتُثِيرُ سَحَابًا))[الروم:48] إلى غير ذلك من السياقات التي تدل على أن الرياح بالجمع تكون للخير، وأن الريح إذا كانت مفردة فهي تدل على أنها الريح العقيم المفردة التي جاءت بالعذاب.فسبحان ربك الذي جعل هذه الرياح مسخرات للبشر في الزرع والحرث والمطر والإنبات والتلقيح والتبشير وهبوب الرياح، يعني: الناس يتغنون به، فهذه الريح بدلاً من أن تكون مسخرة لهم أصبحت مسخرة عليهم ضدهم، (سخرها عليهم) يعني: سلطها عليهم، وأرسلها وأمرها وقهرها وزجرها بذلك فهي مسخرة عليهم. ((سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا))[الحاقة:7]، ويحدد الله سبحانه وتعالى قدر العذاب بدقة متناهية أنه سبع ليال وثمانية أيام، معناه: متى بدأت الريح؟ بدأت الصباح وانتهت في الليل؛ ولذلك صارت الأيام أكثر من الليالي، سبع ليال وثمانية أيام، يعني: بدأت صباح يوم وانتهت مساء اليوم الأخير في الليل، فسخرها الله تعالى عليهم وسلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فبدأت بالنهار وانتهت بآخر النهار أيضاً. بيان معنى الحسوم ((وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا))[الحاقة:7]، وهذا استعمال قرآني عظيم وليس مشهوراً عند العرب.فقوله: (حُسُوماً) من معانيها: أنها متصلة متتابعة غير منقطعة، هذه من معاني (حُسُوماً)، قد يظن أنها ريح تعصف ثم تتوقف، وهذا جرت به العادة وعرفه الناس، أنه قد تعصف الرياح ثم تقف ثم تعصف مرة أخرى، لكن الأمر بالنسبة لهؤلاء القوم كان متصلاً: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) متتابعة لا تتوقف ولا تنقطع، ولا يزيدها الأمر إلا شدة، ونحن رأينا كيف أن ريحاً -مثلاً- أو إعصاراً مثل إعصار كاترينا الذي عصف بـأمريكا ، أو قبل فترة قليلة ما يسمى بإعصار (جونو) الذي عصف بالخليج وبعض المناطق، وتضررت به دول مثل عمان وغيرها، رأينا مثل هذه الإعصارات، وهذه الإعصارات الناس يرصدونها ويتوقعونها، ويحددون غالباً أن مسير الإعصار واتجاهه هكذا ثم ينصرف هكذا ثم يتوقف، بظن -طبعاً- لا بقطع ويقين، ولكن هذه كلها تظل عند ذلك الإعصار وتلك الريح التي ذكرها الله تعالى؛ تظل أشياء يسيرة جداً لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها. أما هؤلاء القوم فهم قوم أقوياء أشداء، ذوو مكانة ومنزلة وقوة وقدرة في أبدانهم وقواهم وعقولهم وإدراكاتهم، ومع ذلك الله تعالى سخر عليهم هذه الريح، كلما ظنوا أنها تتوقف زادت عصفاً هذه المدة الطويلة؛ ولهذا قال: (حُسُوماً) يعني: متتابعة. وأيضاً من معاني قوله: (حُسُوماً) يعني: أنها حاسمة قاضية، والحسم: هو القضاء، ومنه يسمى السيف حساماً؛ لأنه يقطع، فهو يقول: هذه الحسوم قاطعة قد أبادتهم واستأصلتهم؛ ولهذا هو قال: ( أهلكوا) عن قوم ثمود، وقال عن قوم عاد أيضاً: (أهلكوا)؛ فقوله: (حُسُوماً) لتأكيد أن هذا العقاب ما استثنى منهم أحداً، أتى عليهم عن بكرة أبيهم وأبادهم أيما إبادة. وصف حال قوم عاد بعد العذاب والهلاك ولهذا قال سبحانه: ((فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى))[الحاقة:7]، (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا) ما هي؟ قد يكون المقصود: في أرضهم وفي بلادهم، أو يكون المقصود: في هذه الحادثة العظيمة، ترى القوم فيها صرعى مجندلين مرمين على الأرض.قال سبحانه: ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ))[الحاقة:7]، العرب يعرفون النخل جيداً، والنخل من النبات العميق في الأرض والتربة؛ ولهذا قلما يسقط، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النخل فقال: (الراسخات في الوحل -يعني: في الطين والتراب- المطعمات في المَحْلِ)، هنا شبههم بالنخل، تساقطت هذه النخيل، وليس -فقط- انكسرت من الريح، لا، قلعت قلعاً من أصلها في التراب؛ ولهذا قال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ) والعجز: هو نهاية الشيء، وهذا أصبح الشعراء يستعيرونه لكل حادثة هائلة، مثلما ورد في البرامكة:إن البرامكة الذين رموا لديك بداهيةصفر الوجوه كأنهم أعجاز نخل خاويةفأصبح يضرب المثل بالناس الذين هلكوا هلاكاً سريعاً مريعاً بأنهم أعجاز النخل. دلالات قرآنية في وصفهم بأعجاز نخل خاوية وسبحان الله! كم في هذه الآية من الإعجاز، كم في ذكر الأعجاز من الإعجاز! لأنه سبحانه قال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ) فهذه إشارة إلى اقتلاع النخلة من جذورها، وهذا قلما يحدث؛ فإن النخلة قد تنكسر في الريح العاصف، لكن هنا الأمر اقتلاع، وهذا إشارة إلى أن الله اجتثهم من أصولهم سبحانه: ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))[هود:102].وأيضاً: قوله سبحانه: (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، هنا ما معنى (خَاوِيَةٍ)؟ هذا توقف عنده المفسرون كثيراً، (خاوية) يعني: أقرب ما يكون أنه مقطوع رأسها؛ لأنه ما دام قال: (أَعْجَازُ نَخْلٍ) يعني: أسفل النخلة، رأسها مقطوع، انكسر الرأس ثم اجتث العجز، وهذا مناسب جداً لحالهم؛ إشارة إلى أن هؤلاء القوم لا ثمرة فيهم ولا بركة فيهم، النخلة فيها العسب وفيها التمر في أعلاها، أما هؤلاء القوم فانكسروا فهم (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، يعني: النخلة حتى لو انكسرت وفيها ثمرها يمكن أن يؤخذ ثمرها وينتفع به، هؤلاء القوم لا، حتى في التشبيه شبههم الله سبحانه وتعالى بأعجاز النخل الخاوية، ليس فيها ثمر وليس فيها عسب ولا شيء، هي فقط جذع أو نبع النخلة؛ فهذا إشارة إلى أنهم طوال الأجساد عراض يشبهون بالنخيل، ولكن بلا بركة وبلا ثمرة.ومن معاني قوله: (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) يعني أيضاً: ميتة، فالنخلة إذا قلعت من أصلها فهي نخلة هالكة ميتة لا أمل فيها؛ ولذلك جذعها أو نبعها- النبع يقصد به: جذع النخلة أو عمود النخلة-هو أيضاً ميت ليس فيه حياة، فهؤلاء القوم أيضاً لا حياة فيهم، وكيف يكون فيهم حياة وهم قد قتلوا وأهلكوا؟ لكن المقصود أيضاً: أن هؤلاء القوم كانوا بلا قلوب، لم يكن لهم قلوب ولا أرواح ولا عقول ينتفعون بها، فشبهوا كما قال الله تعالى عن المنافقين: ((كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ))[المنافقون:4] خشبة مرمية أو مسندة على الجدار.(كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ) هذه قتلة الله لهم، وللظالمين أمثالها. معنى قوله تعالى (فهل ترى لهم من باقية) يقول الله سبحانه وتعالى: ((فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ))[الحاقة:8]هل ترى أحداً باقياً منهم؟وقوله: (فَهَلْ تَرَى) هذا ليس خطاباً خاصاً لأحد، كما يقولون: هذا خطاب لغير معين، والمقصود منه: تنبيه الإنسان إلى أن يستحضر هذا الأمر كأنه أمامه؛ لأنه لما يقول: (فَهَلْ تَرَى) يعني: بعينيك أيها المخاطب أيها الإنسان! (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)، يعني: الإنسان يلتف ما لهم من باقية، لا تراه بعينك ولا تحسه ولا تعلمه بعلمك، وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى لما أهلك هؤلاء القوم بالريح، لما هلكوا وكانوا مرمين في الشوارع والطرقات والبيوت والمزارع كأنهم أعجاز نخل خاوية، بعد ذلك اشتدت الريح، ثم أخذتهم وحملتهم وألقتهم في البحر، أو حيث يعلم الله تبارك وتعالى؛ فلم يبق لهم باقٍ، حتى هذه الأجساد والجثث لم تبق وذهبت، وإنما بقيت آثارهم تدل عليهم؛ ولهذا قال: (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) ليس لهم من باقية، العرب كانوا يعرفون ذلك. وفي هذا تلويح للعرب بالعقاب الإلهي، وإشارة إلى منة الله تعالى عليهم وعلينا جميعاً بأنه لما بعث هذا النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام أمن الأمم أن يأتيها عذاب الاستئصال الذي يبيدهم فلا يبقى منهم باقية، وإنما يعذب الله تعالى بعض الأقوام، وتبقى الأمم محلاً للسؤال وإقامة الحجة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إشراقات في قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة...) قال سبحانه: ((وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ))[الحاقة:9] أيضاً هذه ضمن سياق قصص الذين كذبوا بالحاقة وكذبوا بالقارعة وبمن جاء بها من المرسلين.قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) من قبله من الأمم السابقة، وقبله أمم كثيرة، منها أمة نوح عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله تعالى خبرها وحكايتها؛ فالله تعالى يقول: وجاء فرعون ومن قبله من الأمم ومن بعده من الأمم أيضاً؛ ولهذا قال: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ).المؤتفكات التي جاءت بالإفك، والإفك: هو الكذب أو الإجرام، والأقرب أن المقصود بالمؤتفكات هنا: قوم لوط؛ فقد ذكر الله تعالى في غير موضع بهذا، وهم ثلاث قرى أو أكثر. قيل: أربعون قرية في بلاد الشام ، وكانوا يأتون الذكران من العالمين، يأتون الفاحشة.وجريمتهم الأكبر من هذا هي أنهم كذبوا الرسل، ورفضوا الإيمان بالله وحده، وأصروا على ما هم عليه؛ فلما دعاهم نبيهم إلى الطهارة وإلى التوحيد رفضوا الوحدانية ورفضوا التطهر، بل اعتبروا الطهارة جريمة: ((أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))[النمل:56] ما يصلحون، هؤلاء ناس يتطهرون، يجلسون عندنا؟! هذا عيبهم؛ فلهذا كان عندهم مسخ في الفطرة؛ لأن الفطرة البشرية السليمة تأبى مثل هذا العمل، وكان لوط عليه السلام يقول لهم: ((هَؤُلاءِ بَنَاتِي))[هود:78] يعني: انكحوا النساء كما أمركم الله وأحل لكم وشرع لكم، وليس المقصود بناته فقط، وإنما بنات القرية والقبيلة أن يتزوجوهن، فالله تعالى يقول: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ))[الحجر:72] السكرة هذه كأنها نوع من الإدمان والاعتياد والافتتان بالذكور، وهذا يحدث في كثير من الحالات الشاذة التي تجد التشجيع وتجد الترغيب، وفي العالم الغربي الآن في أمريكا وفي أوروبا القانون عندهم يجرم ويدين من يعتبر أن هذه جريمة! يدينه القانون ويحاسبه ويعاقبه! فهذا من مسخ الفطرة عندهم والانتكاس؛ ولهذا كانت عقوبتهم أن الله تعالى مسخهم وقلب عليهم ديارهم.قال: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) فجاءوا بالفعلة الخاطئة الفاحشة الجريمة، ليست خطأ وإنما خطيئة؛ فلذلك الله تعالى قال: ((فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ))[الحجر:74]، وفي الآية الأخرى: ((مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ))[هود:82]. إذاً: عاقبهم الله تعالى أيضاً بجزاء من جنس عملهم. دلالات بلاغية في إفراد لفظ الرسول قال: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً))[الحاقة:10] هنا لم يقل: رسل ربهم، وإنما قال: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)، والرسول وإن كان لفظه مفرداً إلا أن المقصود: الجماعة، كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: [الكتاب أكثر من الكتب]؛ لأنك لما تقول: الكتب قد تقصد عشرة كتب أو عشرين كتاباً، لكن لما تقول: الكتاب تقصد كل كتاب، مثل الآن إذا أقاموا معرضاً سموه معرض الكتاب، يعني: معرض جميع الكتب التي يمكن أن تعرض فيه؛ فهذا اسم جنس يدل على جميع الكتب، وهكذا هنا قال: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) يعني: عصوا رسل ربهم، ولكن لفظ (رَسُولَ) هنا أفضل لأسباب: أولاً: لأن فيه جموعاً كثيرة، يعني: (فَعَصَوْا) هذا جمع، (فأخذهم) جمع، فلو قال: عصوا رسل ربهم لكانت كلها جموعاً؛ فكونه يكون مرة جمعاً ومرة مفرداً هذا أجمل في السياق واللفظ. وأيضاً في ذلك معنى، وهو الإشارة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام كأنهم رسول واحد؛ لأنهم جاءوا برسالة واحدة في حقيقتها؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن -معاشر الأنبياء- إخوة لعلات ديننا واحد)، يعني: وشرائعهم شتى، فأصل الدين هو التوحيد: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))[آل عمران:19]، كل الرسل بعثوا بدين واحد وهو التوحيد: ((أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ))[هود:1-2]؛ ولهذا قال سبحانه: ((كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ))[الشعراء:105]، ((كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ))[الشعراء:160]، ((كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ))[الشعراء:141] يعني: وهم كذبوا رسولاً واحداً، فلاحظ أنه هنا قال عن جماعة: إنهم عصوا رسول ربهم، وفي (الشعراء) ذكر عن القبيلة الواحدة أنهم كذبوا المرسلين، المعنى: أن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب المرسلين جميعاً. هذا هو المعنى. عذاب الله تعالى للمؤتفكات قال: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً))[الحاقة:10](رَابِيَةً) يعني: مرتفعة شديدة قوية لا يحتاجون بعدها إلى غيرها، كما أخذ الله تعالى قوم فرعون بالغرق فأهلكهم الله عز وجل عن آخرهم، وكما أخذ الله قوم نوح بالطوفان، وكما أخذ الله تعالى قوم لوط وهم المؤتفكات بأن رفع قراهم إلى السماء، ثم ألقى بها على الأرض، أمر جبريل بذلك فجعل الله تعالى عاليها سافلها، ثم أمطر عليهم هذه الحجارة المؤلمة التي ظلت أزمنة طويلة والأرض التي كانت بعدهم موبوءة بالوباء؛ بسبب هذه الحجارة التي كانت عذاباً عليهم. إشراقات في قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية...) ثم يمتن الله تعالى عليهم فيقول: ((إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ))[الحاقة:11] (طَغَى الْمَاءُ) يعني: ارتفع وزاد، والمقصود هنا في قصة نوح عليه الصلاة والسلام لما أرسل الله الطوفان عليهم فأهلك الأمم والأقوام، وقد يكون عم الأرض كلها؛ ولهذا امتن الله على الناس الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم نجوا زمن الطوفان؛ فيخاطبهم بقوله: (لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ)، المخاطبون هنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى اليوم كانوا محمولين في الجارية، يعني: السفينة مع نوح ، فأنتم من ذرية أولئك الذين كانوا مع نوح ، يقول سبحانه: ((ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا))[الإسراء:3]، فأنتم من ذرياتهم، حملناكم وأنتم في أصلاب آبائكم؛ وعلى هذا فإن الناس الذين عاشوا على الأرض وامتدوا فيها هم من ذرية نوح وممن حمل الله تعالى مع نوح عليه الصلاة والسلام في الجارية. (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) وهي السفينة، ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا))[القمر:14] كما قال سبحانه.((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً))[الحاقة:12] يعني: نجعل القصة التي حدثت تذكرةً لكم، وأيضاً لا مانع من إرادة السفينة ذاتها والجارية أنها تذكرة وعبرة؛ فيتذكر الناس إذا رأوا السفينة قصة نوح عليه الصلاة والسلام: ((وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ))[هود:38]، فالله سبحانه وتعالى جعل الجارية تذكرة لكم.قال سبحانه: ((وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ))[يس:41]، إذاً: ما حملهم هم بأشخاصهم وأعيانهم؛ لأنهم لم يكونوا خلقوا، وإنما حملوا ذراري في أصلاب آبائهم، وحيث يعلم الله سبحانه، ((أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ))[يس:41] (مشحون) يعني: مملوء ((وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ))[يس:42] يعني: عبرة لهم أن الله تعالى خلق لهم ويسر لهم أن يصنعوا أيضاً من الفلك من مثل ما حمل عليه نوح، وجعل ذلك آية كما قال سبحانه: ((وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ))[الشورى:32-33]. دلالات في قوله تعالى (وتعيها أذن واعية) ((حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ))[الحاقة:11-12].(أُذُنٌ) إذاً: لا بد من السمع: ((أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ))[ق:37] أن تسمع القرآن، تسمع الحجة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل الحجة على الإنسان بالسمع والبصر والأفئدة: ((وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))[النحل:78]، وقال سبحانه: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا))[الإسراء:36].إذاً: الإنسان مسئول، وينبغي أن يعتبر بالبصر وما يرى، بالسمع وما يسمع، ومن السمع الوحي، سماع القرآن، وبالأفئدة وهي القلوب والعقول التي تترجم ما يراه الإنسان أو ما يسمعه؛ ولهذا قال هنا: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) صاحبة وعي وإدراك وفهم، وفي ذلك إشارة إلى العقول؛ لأن الأذن لا تعي بذاتها، فالأذن هي مجرى للصوت أو السمع، ولكن الوعي هنا هو لمدرك الحس والعقل والفهم والفؤاد، وينسب إلى الأذن كما هو معروف، فهنا قال: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ): تترجم مثل هذه الأشياء وتعتبر بها.وفي ذلك دليل على أهمية الانتفاع من الحواس، وعلى أهمية الانتفاع من العقل والإدراك، وأن الإسلام جاء لا ليلغي العقل ويجعل الإنسان بلا تفكير، وإنما ليحرض الإنسان على التفكير، بل تجد في القرآن الكريم إشارة إلى أن أهل النار إنما دخلوا النار لأنهم أبطلوا عقولهم ولم يستفيدوا من حواسهم ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ))[الملك:10] هذه الأذن الواعية، لكن آذانهم غير واعية: ((أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10]، وأكثر ما يدمر السمع والعقل والبصر هو التقليد والعصبية، والعادة أن الإنسان جرى على شيء وأخذ عن السابقين من الآباء والأجداد، أو من المجتمع الذي عاش فيه، أو ممن يقلدهم ويثق بعقولهم وعلمهم، يأخذ منهم شيئاً ثم لا يسمح لنفسه أن يناقش هذا الأمر أو يتأمل فيه أو يفكر، القرآن جاء ليحرض الناس على هذا المعنى، أن يتفكروا وأن يعوا وأن يعقلوا وأن ينتفعوا بما أعطاهم الله عز وجل من المواهب والمدارك والملكات، وهذه ميزة عظيمة لهذا الدين، يعني: كثير من الأديان المنسوخة والأديان البشرية أيضاً تحاول أن تعطل ملكة التفكير، المسيحيون -مثلاً- عندهم يقولون: اعصب عينك واعتقد وأنت أعمى؛ لماذا؟ لأن عندهم أشياء كثيرة جداً لا تصمد للنقد والعقل؛ فيريدون أن تمررها على أي شكل كان، أما هنا في هذا القرآن فالله سبحانه وتعالى يحرض الإنسان على التفكير وعلى الوعي وعلى الإدراك وعلى الفهم وعلى النظر، سواء كان هذا النظر في القرآن نفسه بالتدبر، وهذا من السمع؛ لأنه سبحانه لما يقول: ((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً))[الحاقة:12] يعني: هذه القصة التي سقناها لكم؛ فكان من الاعتبار الاعتبار بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والاعتبار بآيات الله تعالى في الكون وفي النفس، الاعتبار بأخبار الأنبياء أخبار الوحي الصادقة عما سبق مما لم نقف عليه؛ لأن عمر الإنسان لا يمتد فقط سبعين سنة عاشها، وإنما يمتد عمرك إلى سنين طويلة جداً مضت أخبرك الله عنها خبر الصدق، وسنين طويلة جداً قادمة، وليس الدنيا فقط بل والآخرة أيضاً، فيكون عند الإنسان اعتبار ويفتح عقله وذهنه، قال: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). إشراقات في قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ...) قال سبحانه: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ))[الحاقة:13] ولم يبين الله تعالى من نفخ؛ لأن المقصود العبرة، الناس دائماً يسألون أسئلة تفصيلية لا تنفعهم كثيراً، ما هو الصور؟ الله أعلم ما هو الصور، شيء ينفخ فيه، الصور: هو القرن في لغة العرب، لكن ليس كالقرن الذي تعرفه أنت، قرن الثور أو قرن الفيل الذي تراه الآن، هذه أشياء دنيوية يسيرة في عقلي وعقلك، أما الصور المذكور في القرآن فهو شيء غيبي يعلمه الله لا تحيط به العقول، وما أدراك ما الصور؟ شيء لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه داخل في قوله: ((الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ))[الحاقة:1-3] فالحاقة بدايتها نفخ الصور.والنفخات في القرآن ثلاث: ((وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ))[النمل:87] هذه نفخة الفزع، ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ))[الزمر:68] الناس كلهم يصعقون ويموتون، والنفخة الثالثة: ((ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ))[الزمر:68]، وقيل: هما نفختان، المهم نفخ، الذي ينفخ إسرافيل، وبعضهم يقول: الصور جمع صورة، يعني: في صور الناس، وهذا من نتيجة النفخ في الصور، أنه إذا نفخ في الصور المرة الأولى خرب الكون كله وانهدم بإذن خالقه ومنشئه، أما النفخة الثانية فهي التي يقوم فيها الناس لرب العالمين، وتذهب كل روح إلى جسدها إلى صورتها. المراد بقوله تعالى (نفخة واحدة) ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ))[الحاقة:13] هنا قال: واحدة، نحن قلنا: النفختان اثنتان أو ثلاث، كيف نجمع بينهما؟ نقول: إن قوله: (وَاحِدَةٌ) هنا ليس المقصود: أنه ليس بعدها نفخة أخرى، وإنما المقصود: أن الأمر لا يحتاج إلى تكرار النفخة، نفخة واحدة تكفي في تحقيق المراد والمطلوب، فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة هنا حصل الدمار الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى، والنفخة الثانية هي أيضاً نفخة واحدة يقوم فيها الناس لرب العالمين، ولا يحتاج إلى تكرار النفخة، يعني: هل أحد لم يقم من النفخة فينفخ مرة أخرى حتى يقوم؟ أبداً. نفخة واحدة تكفي لدمار الكون، ونفخة واحدة تكفي لقيام الناس. ما يحصل للأرض والجبال من الدك يوم القيامة قال: ((وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً))[الحاقة:14]، وذكر سبحانه الجبال أنها تحمل أيضاً، وهي من ضمن الأرض، ولكن الجبال تدك وتصبح ((كَثِيبًا مَهِيلًا))[المزمل:14]تصبح كما ذكر الله: ((كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ))[القارعة:5] فتنهار، فتحمل الأرض وتحمل الجبال وتدك دكة واحدة.والدكة: هي الضربة القوية الهائلة، وأيضاً هنا قال: (دَكَّةً وَاحِدَةً)، وكأن مقتضى هذا -والله أعلم- أنها تبسط، كما قال: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا))[طه:105-107]، يعني: الأرض تهيأ للقيامة فتبسط الأرض بسطاً، ولا يكون فيها مكان ملجأ ولا وزر ولا مختفى ولا مرتفع ولا منخفض، فهي على امتداد واحد، وهذا من معاني الدك، فإن العرب إذا قالوا: هذه الناقة دكاء، يعني: ليس لها سنام، بل ظهرها متساو. الإخبار عن وقوع القيامة وانشقاق السماء (فيومئذ): عند النفخ ودك الأرض والجبال، قال سبحانه: ((فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ))[الحاقة:15] يعني:حدثت الحادثة، القصة، الخبر الموعود وقع، كان وعداً في ضمير الغيب، واليوم هو واقع يشاهد بالعيان ويسمع بالآذان: ((فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ))[الحاقة:15-16] هذه السماء المتينة القوية انشقت، تشققت تصدعت فتحت، الملائكة فيها نازلون صاعدون في المهمات الجسام والخطب الجلل. قال سبحانه: ((فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ))[الحاقة:16] يعني: ضعيفة رخوة ليست كعادتها. معنى قوله تعالى (والملك على أرجائها) ((وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا))[الحاقة:17] الملك مثلما قلنا في الرسول، الملائكة ليس المقصود ملكاً واحداً، وإنما الملائكة (عَلَى أَرْجَائِهَا)، يعني: قائمون. وقوله: (عَلَى أَرْجَائِهَا) يعني: على أطراف السماء المتشققة، على بقية أطرافها التي ما زالت باقية قائمة، أو المقصود: (عَلَى أَرْجَائِهَا) يعني: على أرجاء الأرض وأرجاء الكون، فحتى الملائكة هم في أمر عظيم لا يتكلمون بسبب الهول والرعب. معنى قوله تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية) قال سبحانه: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] هول عظيم، يحمل العرش، العرش جاء ذكره في القرآن الكريم كثيراً: ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ))[الزمر:75]، ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وكأن العرش المذكور هنا هو هو.(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) هذا أيضاً تضخيم وتعظيم، وهو يحتوي على إشارة بالرحمة، الرحمة للمؤمن، الرحمة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقول: (عَرْشَ رَبِّكَ)، فهنا المؤمن يستشعر رحمة الله، ويلوذ بهذه الرحمة وينتظرها ويرجوها، فإنه: ((لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ))[هود:43].قال: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ))[الحاقة:17] وهنا الأمر لفصل القضاء، أن الله تعالى يأتي لفصل القضاء بين عباده بما لا تحيط به العقول، ولا تدركه المدارك، ولا يعلمه إلا هو سبحانه، فإنه لا يعلم كيف هو سبحانه إلا هو، أما البشر فتأتي في عقولهم خيالات وتصورات وتهيؤات، لكن كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، كل صورة تقع في ذهنك لا تنزعج منها، تذكر أنه لا يمكن أن تكون هذه صورة لرب العالمين؛ لأن البشر كلهم مهما تخيلوا وتهيئوا وظنوا وتوقعوا لا يمكن أن تقع في أذهانهم أو خيالاتهم إلا صور مخلوقة هي من وحي عقولهم الضعيفة الكليلة، ليست لله سبحانه وتعالى، فالله لا يحيط البشر بشيء من علمه إلا بما شاء، فحينما يقول سبحانه: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ)، وقد جاء سبحانه لفصل القضاء: ((كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا))[الفجر:21] مثلما هنا: ((وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ))[الفجر:22].إذاً: يأتي ربنا سبحانه ويأتي الملك، كما قال هنا: ((وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا))[الحاقة:17]، ((صَفًّا صَفًّا))[الفجر:22].وأيضاً جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، الأمر هائل! هذا خبر الله سبحانه وتعالى في القرآن المحكم المتواتر.((وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]، (فَوْقَهُمْ): العرش فوق هؤلاء الثمانية الذين يحملونه، (فَوْقَهُمْ) فوق الملك الذين هم (عَلَى أَرْجَائِهَا)، (فَوْقَهُمْ) يعني: فوق أهل الموقف والمحشر كلهم، فالله تعالى أعلى من كل علي، وأعظم من كل عظيم، وهو العلي الأعلى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا))[طه:110] لا أحد يقدر ربنا سبحانه حق قدره إلا هو جل وعز. المراد بالثمانية قال: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] ثمانية من الملائكة، لكن كل ملك ما صفته؟ الله أعلم بذلك، في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين كتفه إلى ترقوته مسيرة سبعين عاماً) .وحتى هنا (سبعين عاماً) هل هي سبعون عاماً من الأعوام التي نعرفها، أو من الأعوام التي عند الله؟ هذا -أيضاً- الله أعلم به، فهذا غيب، أنا وإياك نعرف الألاعيب البسيطة والأشياء الصغيرة والأمور المادية الدنيوية، حتى أمور الدنيا في الأفلاك وأمور السماء، إذا سمعنا كلام العلماء المتبحرين فيها ظنناه أقرب إلى الأساطير والخرافات؛ لأنه بعيد وكبير على عقولنا ومداركنا؛ فكيف بأمر الآخرة والغيب؟! ولهذا ربنا سبحانه يقول بعد قليل: ((فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ))[الحاقة:38-39].وقد يكونون ثمانية، كما قال الحسن البصري : [ما أدري أثمانية أشخاص، أو ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف، أوثمانية عشرات، أو ما شاء الله؟] الأمر متروك لله سبحانه وتعالى، وإن كان يوجد بعض الآثار، مثلاً: أمية بن أبي الصلت يقول: شهدت بأنَّ وعد اللَه حقٌّ وأنَّ النار مثوى الكافريناوأنَّ العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش ربُّ العالميناوتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسوميناوكان يقول:أسد وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصدوالشمس تصبح كل آخِر ليلةٍ حمراء يُصبِح لونها يتورَّدتأَبى فما تطلع لنا في رسلها إلا معذبة وإلا تجلدلكن هذا من كلام أمية بن أبي الصلت ، يعني: ليس فيه نص نبوي ولا نص قرآني، وإنما نكتفي عند النص القرآني: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]. والإعجاز حاصل والهول حاصل، سواء تخيلناهم ثمانية ملائكة أو ثمانية مما يشاء الله تعالى، وهؤلاء الملائكة الله سبحانه وتعالى جعل في خلقهم عبرة، وإلا فالله تعالى غني عنهم وغني عن العرش وغني عن خلقه كلهم أجمعين، ولكن هذا مما بينه الله تعالى في كتابه؛ فنؤمن به كما بينه الله عز وجل، ونقول: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))[البقرة:285]، ولا نشبه الله تعالى بشيء من خلقه ولا بأحد من خلقه. معنى قوله تعالى (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) يقول ربنا سبحانه: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ))[الحاقة:18] إذاً: كل هذا الهول وهذه الدكة، وهذا الجمع، وهذه التغيرات الهائلة المقصود بها أنت؛ ولهذا قال: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) يعرضون على ربهم سبحانه (لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)؛ لأن الله ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ))[غافر:19]، فكما لا تخفى عليه منكم في الدنيا خافية فكذلك في الآخرة لا تخفى عليه خافية.ومن معاني الآية الكريمة أن ما كانوا يخفونه في الدنيا يظهره الله تعالى يوم القيامة، فلا يخفى على الله منهم شيء، كما قال سبحانه: ((يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ))[غافر:16]. إشراقات في قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه...) قال سبحانه: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ))[الحاقة:19] يعني: بيده اليمنى، واليمني هي علامة اليُمن والبركة والفأل، والأمر على ظاهره أن المؤمنين يأخذون كتاب أعمالهم بيدهم اليمين: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ))[الحاقة:19]، ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ))[الحاقة:25]، وفي آية أخرى: ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ))[الانشقاق:10]، فهذا هو الذي أوتي كتابه بشماله أو هو شر منه أيضاً، يعني: أن الكافرين على درجات ودركات: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) هنا عرض ليس فيه حساب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من نوقش الحساب عذب)، وإنما تعرض عليه أعماله عرضاً خفيفاً وتستر عليه، فيذكر بأعماله وحسناته وذنوبه أيضاً، أتذكر ذنب كذا؟! أتذكر ذنب كذا؟! لا يستطيع أن ينكر منها شيئاً، فيقول الله له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه.فهذا الذي أعطي كتابه بيمينه فاز، أخذ الشهادة، فهو يتحدث بفرح وسرور وكأن ليس في الدنيا غيره، والدنيا ما تسعه من الفرحة: ((هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ))[الحاقة:19]؛ فلأنه فرح مسرور يريد من الناس أن يشاركوه هذه الفرحة.وتتذكر الأطفال الصغار لما يأتون من مدارسهم- مع البون الشاسع- بالشهادات وقد فازوا بها، وكل من لقوه من قريب أو حبيب أو أحد ظنوا أن الهم الوحيد عند الناس كلهم هو أن فلاناً نجح؛ فيقول: انظر يا عم! الشهادة، تفوقت فزت فيها. هنا هؤلاء الناس بعفويتهم وفرحهم يعبرون عن هذا الفرح، أن صاحب الكتاب الذي أخذه باليمين يخبر كل من رأى من المؤمنين، وإلا فالله سبحانه وتعالى ذكر أن كل أحد مشغول: ((يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ))[عبس:34-36]، ويود أن يفتدي من العذاب بأقرب الناس إليه، لكن المؤمنون غير أولئك، الأمر مختلف، فيأخذ الواحد منهم كتابه باليمين، وكلما رأى أحداً من إخوانه أو قرابته من المؤمنين والمسلمين شركاء الطريق وشركاء المصير يريهم، تفضلوا (هَاؤُمُ)، وكلمة: (ها) تنبيه، وهي للتأكيد، (هَاؤُمُ) يعني: خذوا انظروا اقرءوا. اقرءوا كتابي. مسرور وحق له ذلك؛ لأنه الفوز الأبدي، هذا كتاب أعماله كتاب حسناته. معنى قوله تعالى (إني ظننت أني ملاق حسابيه) ويعطي تفصيلاً: ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ))[الحاقة:20]، يعني: كان يؤمن بيوم الدين، ويقول أيضاً: ظننت أنني سوف ألقى من الله تعالى هذا الحساب اليسير، ليس من باب حسن الظن بالنفس، ولا من باب الإدلال بالعمل، ولا من باب الإعجاب، لا، وإنما من باب حسن الظن بالله؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء)، فهذا يقول: (هَاؤُمُ اقْرَءوا كِتَابِيَهْ)، الكتاب من الأعمال الصالحة الموجودة فيه: أنه ظن أنه ملاق حسابه؛ ولهذا يقول: ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ))[الحاقة:20]، يعني: ملاقٍ مثل هذا الحساب. وأيضاً فيها معنىً ثانٍ: إني خفت من سوء الحساب، كان بين الخوف وبين الرجاء؛ ولهذا -سبحان الله- كلمة: (ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) تحتمل المعنيين، تحتمل أنه خاف، إذاً: هو آمن بالبعث يقيناً، هذا يقين وليس ظناً، وخاف، كان متردداً بين الخوف والرجاء، فعنده حسن ظن بالله، وعنده سوء ظن بعمله؛ ولهذا قال سبحانه: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ))[المؤمنون:60]، وقال سبحانه: ((وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ))[المعارج:27]، فجمع في الظن هنا بين الخوف والرجاء: (أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ). معنى قوله تعالى (فهو في عيشة راضية) قال سبحانه: (فهو) يخبر عنه الآن: ((فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ))[الحاقة:21]، الكلام عن فرد عن شخص واحد، وإن كان يشمل كل من سبقت له من الله الحسنى. (فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ): مرضية، ولكن العيشة نفسها راضية، راضية بصاحبها، وصاحبها راضٍ بها، وكأن الرضا انتقل من الشخص نفسه إلى العيشة؛ فأصبحت العيشة نفسها عيشة راضية، وهذا معناه: أن الإنسان لما يكون مرفهاً منعماً، مبسوطاً في سكنه وفي وظيفته وصحته وزوجته وأولاده وأموره كلها يقول: والله عندي الحياة راضية، في رضاء.((فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ))[الحاقة:21-22] وصفها بالعلو، علو المكان عند الله تبارك وتعالى في السماوات، وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو أصحابها: ((لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا))[الواقعة:25]، وقد يوجد في الدنيا جنان عالية، أهل الدنيا غالباً يضعون الجنان والبساتين والقصور الفخمة في مكان مرتفع حتى يرى الواحد منهم كل جنته، ويرى غيرها من خلاله، كما قال سبحانه: ((كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ))[البقرة:265]، لكن فرق وشتان بين جنة بربوة في الدنيا وبين الجنة العالية، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، هذه درجات أصحاب الجنة، أو هذه درجات أصحاب الجهاد في سبيل الله في الجنة، فما بالك بأصحاب الجنة؟ ما بالك بالأنبياء والمرسلين والصديقين والسابقين والشهداء والصالحين؟ معنى قوله تعالى (في جنة عالية قطوفها دانية) ((فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ))[الحاقة:22-23]، انظر: مع أنها عالية قطوفها دانية، يعني: قريبة يتناولها وهو قاعد أو مضطجع أو قائم أو ماشٍ، والقطف: هو ما يقطف من الثمرة، إذا أراد قطفه دنا منه. إذاً: الجنة عالية بمكانها وقدرها وصفتها، ومع ذلك فيها هذه الألوان من النعيم. ومن أعظم النعيم الكلام الذي يسمعونه، يقال لهم: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا))[الحاقة:24] تكريم، أمر لهم، أمر تكريم؛ لأن الآخرة ليس فيها تكليف. معنى قوله تعالى (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ))[الحاقة:24]، وتمعن الخطاب هنا، بدلاً من أن كان واحداً: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) هنا قال: (كُلُوا)، كأن كل واحد منهم كان يضيف ضيافة خاصة، ويرحب به ترحيباً خاصاً، فإذا دخلوا الجنة كلهم وتكاملوا كان الخطاب لهم جميعاً بالتحية: (كُلُوا)، كإنسان إذا استقبل ضيوفه، ويكرمهم واحداً واحداً ويجلسهم- ولله المثل الأعلى- ثم إذا تجمعوا قال لهم: تفضلوا حياكم الله. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ)، ولله الحكمة البالغة: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))[الروم:27].(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) يعني: طيباً لا يخالطه هم ولا غم ولا كدر ولا وجع ولا مرض ولا تكدير، كعادة الأكل في الدنيا. يعني: مهما طاب الطعام في الدنيا تفسده التخمة والشبع وأمراض البطن، وأغلب العلة من البطن كما يقول: فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشرابهنا قال لهم: ((هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ))[الحاقة:24]؛ إشادة بعملهم، ولا شك أنهم دخلوا الجنة برحمة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إلا أن يتغمدني الله برحمته)، ولكن أعمالهم جعلتهم أهلاً لهذه الرحمة، فرحمة الله قريب من المحسنين، وفي ذلك تذكير بالعمل، وأن أهل الجنة دخلوها بأعمالهم، وأهل النار دخلوها بأعمالهم.قال: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) مضى التعب والعناء وبقي الأجر، ومضت اللذة وبقي الإثم. إنَّ أهنا عيشةٍ قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل إشراقات في قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه...) عظيم ندامة الكافر يوم القيامة وأما القسم الثاني: ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ))[الحاقة:25] بمجرد ما يؤتى الكتاب بالشمال هذه علامة على الكفر والخيبة والخسران، فهو يقول: ((يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ))[الحاقة:25]، ليتني من دون هذا الكتاب؛ لأنه يشعر بالعار والخزي من حمل هذا الكتاب والخسار، يقول: ((وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ))[الحاقة:26]، يا ليتني لم أعرف هذا الحساب ولم أخلق ولم أوجد.((يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ))[الحاقة:27]، الموت ليته كان القاضي علي ولم أبعث، ((يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا))[النبأ:40]، يعني: مدفوناً في التراب، هو لا يطمع في مصير المؤمنين -مثلاً- ولا يتمناه؛ لأنه كما قال سبحانه: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ))[سبأ:54]، هو يتمنى الخلاص فقط، يتمنى أن يكون حجراً أو شجراً.((مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ))[الحاقة:28]، إذاً: هو كان عنده مال في الدنيا؛ والدليل أنه يقول: ((مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ))[الحاقة:28]، ما نفعني بشيء، ((هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ))[الحاقة:29]، كان عنده سلطان أيضاً، له رياسة وله جاه ومنصب، لكن ما نفعه، وطبعاً من معاني السلطان، قد يكون من معانيه: الحجة؛ فهو يقول: ذهبت عني حجتي فلا حجة لي في ذلك اليوم؛ لأن الحجة قد قامت علي. عظيم عذاب الكافر يوم القيامة جزاء عمله يقول سبحانه للملائكة: ((خُذُوهُ فَغُلُّوهُ))[الحاقة:30]، فيبتدرون إليه؛ لأن هذا أمر إلهي ينفذ فوراً من دون إبطاء ولا تأخير، (فَغُلُّوهُ) يعني: ضعوه في الأغلال التي يقيد بها، يغل بها يداه ورجلاه ورقبته.((ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ))[الحاقة:31]، الجحيم أعلى دركاتها وأسفل دركاتها، ضعوه بها يصلاها، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)؛ ليعانيها ويقاسيها في كل ذرة منه.ثم فوق ذلك العذاب: ((فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ))[الحاقة:32]، هذه سلسلة منصوص عليها في القرآن الكريم من عند خالقها سبحانه، وذرعها معروف (سَبْعُونَ ذِرَاعاً)، بذراع من؟! ليس بذراعي ولا ذراعك، بما يعلم الله، يقال: بذراع الملك، ويقال غير هذا، والمقصود هنا ليس أن يتجادل الناس: هل (سَبْعُونَ ذِرَاعاً) يقصد بها حقيقة أنها سبعون، يعني: ليست ثمانين ولا ستين؟ أو أن المقصود: أن أذرعها طويلة جداً، مثلما قال: ((إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ))[التوبة:80]؟ هذا ممكن وهذا ممكن، وأيضاً: هل هو بذراع الإنسان أم بذراع الملك أم بما شاء الله؟ المقصود هو الاعتبار.((ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ))[الحاقة:32] يعني: أن هذا الإنسان تلف عليه هذه السلسلة؛ حتى تحيط به من كل جانب، فلا مطمع له في خلاص منها؛ لماذا؟ لأنه قيد نفسه بأغلال الشهوة أو أغلال التبعية، أو أغلال الهوى أو أغلال التقليد، أو أغلال المال أو أغلال السلطان، وغفل عن ربه؛ فكان الجزاء من جنس العمل. أسباب استحقاق الكافر عظيم العذاب يوم القيامة ((إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ))[الحاقة:33] في دار الدنيا، وقال: (لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) إشارة إلى عظمة الله سبحانه وتعالى، وعظم الجرم بالكفر بالله ((إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ))[غافر:10].((وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ))[الحاقة:34] وانظر كيف قرن بين ترك الإيمان بالله العظيم وبين ترك إطعام المسكين؛ للتأكيد على المعاني الإنسانية لهذا الدين وتكريسها، وأن الإيمان من تجلياته وآثاره: الشفقة على الضعفاء والمساكين والأيتام والأرامل والأيامى واليتامى والضعفاء والمعوزين، وليس احتقارهم أو ازدراءهم أو نهب حقوقهم، هذا من أعظم علامات وصفات الإيمان، أما أن تجد اليوم أن البلاد التي أهلها أهل إسلام الحقوق مسلوبة، والخصائص منهوبة، والعدوان على قدم وساق، ولا يستطيع الكثير من الناس أن ينتصروا، بينما تجد في أمم أخرى ليس عندها ذلك الإيمان، ولكن مصالحها الدنيوية جعلتها تدري أن المحافظة على حقوق الناس سر بقاء الدنيا وقوامها؛ فسلكوا إلى ذلك سبيلاً، فإن هذا أمر مؤذن بشر مستطير، ويوجب على كل داعٍ وخطيب ومربٍ ومصلح أن يدرك أنه كما ندعو الناس إلى الإيمان بالله العظيم ونذكرهم به، ينبغي أن نذكرهم ونحرضهم أبداً بالحفاظ على حقوق المساكين والصغار، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكرت له بعض أمهات المؤمنين ما رأته بـالحبشة من أن شاباً مراهقاً دفع عجوزاً كانت تحمل شيئاً على ظهرها فسقطت، فقامت وقالت له: سوف تعلم يوم القيامة إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء ماذا يكون جزاؤك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقت صدقت، لا قدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير مُتَعْتِع). يعني: لا يتلجلج ولا يتلعثم لسانه؛ لأنه يخاف من الكبير أو من الرئيس أو من المسئول أو من المدير، وإنما يأخذ حقه وهو مرتاح؛ لأن النظام يحميه والمجتمع يحميه، فمن هنا قال سبحانه: ((إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ))[الحاقة:33-34]، ولم يقل: ولا يطعم المسكين، بل عابه بشيء أكثر من مجرد الإطعام، فمن الممكن أن يطعم ولكنه لا يحض على طعام المسكين، قد يكون الإنسان ليس عنده شيء، لكن على الأقل تحرض الناس، أو تكون واسطة بين المسكين وبين من يمكن أن يطعمه، وليس المقصود أفراداً فقط، وإنما أن يكون المجتمع بمؤسساته، بجمعياته الخيرية، بوسائل الإعلام، بكل الطرق الموجودة، بالأنظمة والقوانين، بالشركات بالتجار بالأغنياء بالأثرياء بالمسئولين، كل واحد عنده جهود لإيصال الحقوق للفقراء والمساكين والمعوزين والمحتاجين، واعتبر هذا ليس منة وإنما هو حق معلوم. الجزاء من جنس العمل قال سبحانه: ((فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ))[الحاقة:35]؛ لأنه ما قدم إيماناً ولا قدم إحساناً، لا آمن بالله ولا حض على طعام المسكين، (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ) يعني: صديق ينصره أو يعينه.((وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ))[الحاقة:36]، ((وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ))[الحاقة:34] لاحظ: الجزاء من جنس العمل، يوم القيامة هو ليس له طعام أيضاً، فهو مسكين ولكن من وجه آخر.والغسلين: نوع من الطعام في النار مثل الزقوم: ((إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ))[الدخان:43-44]، ومثلما ورد في مواضع عديدة ذكر طعام أهل النار، فهل هو غسالة أهل النار؟ أم هو شيء آخر؟ نقول: هو طعام من طعام أهل النار، من جنس ما ذكر الله تعالى في مواضع من كتابه، ولكن هذا طعام سيئ ((لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ))[الحاقة:37]، فهم مضطرون إليه؛ لأنهم خاطئون، ويقيد الله تعالى عليهم في نهاية المطاف ذلك، كما قال: (جاءوا بالخاطئة) قال هنا: (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ). إشراقات في قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون...) ثم يقول سبحانه في نهاية السورة لتأكيد المعنى وأخذ العبرة: ((فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ))[الحاقة:37-39]، وهذا قسم إلهي عظيم بكل شيء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: هذا أوسع وأعظم قسمٍ في القرآن؛ لأنه أقسم بكل شيء سبحانه، بما تبصرون وما لا تبصرون، والدنيا هي شيئان، بل الكون هو ما تبصر وما لا تبصر، فهناك ما تراه عينك وهناك ما لا تراه عينك، الدنيا والآخرة هذا ما تبصرون وما لا تبصرون، الغيب والشهادة هذا ما تبصرون وما لا تبصرون، الحس والمعنى هذا ما تبصرون وما لا تبصرون، يقسم الله تعالى بكل هذه الأشياء وبغيرها أيضاً. معنى قوله تعالى (إنه لقول رسول كريم) (( إِنَّهُ )) يعني: القرآن ((لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل، فسماه رسولاً، هناك الرسول البشري وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بلغه للناس، وهناك الرسول الملائكي جبريل عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً نقله من رب العزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.وقال الله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ))[التكوير:20-22] إذاً: الرسول هنا هو جبريل ، فهل الرسول هنا هو جبريل ؟! أو هو محمد صلى الله عليه وسلم، أوهما معاً؛ لأنه يحتمل الاثنين معاً.لما قال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ) هو قول الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى هو المتكلم بهذا القرآن على وجه الحقيقة، فالقرآن كلامه سبحانه وتنزيله، وإنما نسبه إلى الرسول لأنه بلغه، وليس في الأمر التباس؛ لأنه لما سماه رسولاً تبين أن الرسول هنا ما جاء بالشيء من عنده، وإنما هو مرسل من غيره، فالله أرسله يبلغ قول الله عز وجل، ووصف الرسول بأنه كريم عند الله سبحانه وتعالى، والكرم جامع لكل خصال الخير. معنى قوله تعالى (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ))[الحاقة:41]، هو قول الله سبحانه وتعالى أوحى به إلى نبيه عليه الصلاة والسلام، ((وَمَا هُوَ))[الحاقة:41] كما تزعمون ((بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ))[الحاقة:41-42] كما قالت طائفة أخرى منكم ((قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ))[الحاقة:42].وفي الآية الأولى قال سبحانه: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ))[الحاقة:40-41]،يعني: أنكم لا تؤمنون أصلاً. فهم لا إيمان عندهم، وأحياناً العرب يقولون عن الشيء: قليل) مبالغة في نفيه، وأنه لا يوجد منه شيء أبداً، ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم أحياناً يقع في قلوبهم بعض الإيمان، ولكنهم يقمعون هذا الإيمان -وهذا أقوى في الحجة- ويكبتونه، وإلا فإنه يكون في قلوبهم أحياناً نوع من اليقظة يقظة الضمير، ولكنهم يقمعونها ويكبتونها؛ لأموالهم وأولادهم وسلطانهم ومصالحهم وأصدقائهم؛ ولهذا قال: (قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ)، يعني: الحجة بهذا القرآن عظيمة جداً، وأنتم تعرفون الشعر، العرب هم أهل شعر وأهل لسان وأهل بيان؛ ولذلك كانت معجزة القرآن لفظية، كان القرآن معجزاً بلفظه للعرب قبل غير ذلك من الأمور الأخرى المعجزة، فقال هنا: (قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ)، يعني: لو أنكم نظرتم في القرآن، ورأيتم ما فيه من الحجج، وما فيه من المعاني مثلما في هذه السورة من الحاقة ومن أدلتها، ومن أخبار الأمم السابقة، ومن الوعد ومن الوعيد؛ لأدركتم أن هذه المعاني ليست معاني شاعر، الشاعر يسبح في الخيال، والشاعر يقول كلاماً يحرك العواطف والوجدان، والشاعر ربما يشتاق إلى حبيبته، والشاعر ربما ينصر قومه أو ينتصر من أعدائه، أما هذا السياق فليس من الشعر بسبيل، ولكنكم لا تؤمنون؛ ولهذا هربتم إلى وصفه بأنه شاعر؛ لأن الشعر صناعتكم. معنى قوله تعالى (ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) قال: ((وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ))[الحاقة:42]، يعني: لو كان في قلوبكم شيء من التذكر لم تقولوا: إنه كهانة؛ لأنه أبعد ما يكون عنها، فالكهانة أبعد من الشعر، وأيضاً كما أنه ليس عندكم إيمان فقليلاً ما تؤمنون؛ فليس عندكم تذكر، والمطلوب هو أن الإنسان يكون عنده إيمان وتصديق، ويكون عنده تذكر، يعني: يكون في قلبه خشية وخوف، وهم قد حرموا من هذا وذاك. معنى قوله تعالى (تنزيل من رب العالمين) ((تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الحاقة:43]، ولهذا لما قال: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] قال: ((تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الحاقة:43] هو من الله سبحانه وتعالى، ليس من عند هذا الرسول ولا من مبتكراته، ولكنه تنزيل من الله سبحانه وتعالى. دلالة وعيد الله تعالى للرسول في نسبة ما لم يقله إليه ثم عقب بشيء عظيم، عظيم فعلاً. قال: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ))[الحاقة:44] هذا الرسول (لَوْ تَقَوَّلَ) زاد (عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) الأقاويل: مثل الأكاذيب الأغاليط الأحاديث، ونسبه إلى الله سبحانه وتعالى، لو حدث هذا منه، وليس كل الأقاويل، بعضٌ، ولو واحدة، يصدق على واحدة، ما الذي يحدث؟ الله سبحانه وتعالى يوحي هذا القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التهديد، ولا يملك النبي عليه الصلاة والسلام وهو بمكة إلا أن يقرأه على الناس، ويحفظهم إياه، ويضرب بالحجة بين ظهورهم، مع أن التهديد موجه إليه هو شخصياً عليه الصلاة والسلام، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) انظر: هذه عظمة القرآن، وحفظ القرآن، وتكفل الله سبحانه وتعالى بأن يقصم ظهر كل من ينسب إلى الله تعالى الكذب والزور ويقول: هذا من عند الله، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) مع محبة الله تعالى له واصطفائه واختياره، وعلم الله به سبحانه، مع ذلك يأتي هذا التهديد إقامة للحجة على المشركين بأن هذا كلام الله سبحانه وتعالى.((لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ))[الحاقة:45-46]، يجوز أن يكون المعنى كما قال الحسن وغيره: [أن الله تعالى يأخذ منه بيده اليمنى ثم يقطع رقبته] هذا المعنى، السياف أحياناً إذا أراد أن يضرب الإنسان بالسيف فإن أشد وأشنع ما يكون أمامه أن يأخذ بيده اليمنى ثم يضربه من الأمام، أما لو أخذه بالشمال فربما يضربه من خلفه، فهذا أشد ما يكون من الأخذ. ومن معاني: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) اليمين: القوة. إِذا ما راية رفعت لحرب تلقاها عرابةُ باليمين((إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ))[الصافات:28]. من معاني اليمين: القوة. تقول: أخذ الشيء بيمينه يعني: ليس بالضرورة بيده اليمنى، مثل قولك: بيمناي: يعني: بقوتي بقدرتي؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: لأخذنا منه بالقوة، بقوة الله سبحانه وتعالى، يقول: لأخذناه بقوتنا.((ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ))[الحاقة:46]، والوتين: هو عرق متصل بالقلب مباشرة، وهذا العرق يسمونه نهر الدم، هو الذي يقطع من الذبيحة فيسيل دمها فيموت الإنسان.فالله سبحانه وتعالى يبين بالحجة أن أحداً لو ادعى كلاماً ونسبه إلى الله عز وجل وضلل به الناس؛ فإن الله تعالى يفعل به هذا، أما ادعاء النبوة فقد يدعي بعض الناس النبوة، ثم يمهلهم الله تعالى وينظرهم إلى أوان عقابهم، وقد يعذبهم على يد بعض خلصائه وأوليائه، كما حصل لـمسيلمة الكذاب و الأسود العنسي وأدعياء النبوة عبر التاريخ إلى زمان الناس هذا فيمن ادعى النبوة، أن الله تعالى يفضحهم، ولكنه قد يمهلهم بعض الإمهال، ثم يفضحهم أو يقيض لهم من يفضحهم ويبين تناقضهم وكذبهم. قال سبحانه: ((فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ))[الحاقة:47] إذا حدث هذا له لمن يتقول على الله بعض الأقاويل فلا أحد يحول بين الله تعالى وبينه، أو يحميه أو يحجزه، وهذه من أعظم العلامات على النبوة والرسالة والوحي، أن يكون هذا خطاباً موجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم فيقوله وينقله ويبلغه للناس. إشراقات في قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين...) ((وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ))[الحاقة:48] الذين يخافون الله؛ فتخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، يذكرهم حق الله عليهم.((وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ))[الحاقة:49]، أرسلنا هذا الرسول وأنزلنا هذا القرآن، ونحن نعلم أن منكم من لن ينتفع بهذا الوحي، ولكن: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ))[الأنفال:42]. عظيم حسرة الكافرين ((وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ))[الحاقة:50] سبحان الله! الحسرة: الشيء الذي يتحسر عليه الإنسان، والإنسان إنما يتحسر على أمور فاتت، فالحسرة هي بعد فوات الأوان.وأخذت الحسرة من الحسر، تقول: فلان حسر عن ثوبه، يعني: إذا رفع ثوبه قليلاً، أو حسر رداءه، فهنا قال: (حسرة) لأنهم يظهرون الألم بعد فوات الأوان: ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيمفالحسرة: هي تحسّر الإنسان على شيء فاته، ويا لعظم ما فات هؤلاء القوم المكذبين الذين قال الله عنهم: ((وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ))[الحاقة:50] حسرة عليهم في الدنيا؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقاوموا حجته ولا أن يردوه، وحسرة عليهم في الدنيا؛ لأن الله يكتب لأهله النصر والقوة والتمكين على رغم كيد الكائدين، وحسرة لهم أن الله تعالى يحاصرهم بهذا القرآن بالحجج التي لا مخلص لهم منها، ولكنهم يأبون ويرفضون، وحسرة عليهم في الآخرة؛ لأن الحجة قامت به عليهم. أوجه الفرق بين علم اليقين وعينه وحقه ((وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ))[الحاقة:51]. ذكر الله تعالى في القرآن الكريم علم اليقين: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ))[التكاثر:1-5]، فعلم اليقين: هو العلم الضروري اليقيني الذي تحصّل للإنسان بسبب المعرفة والاطلاع والبحث والأدلة، علم، هذا علم اليقين، يعني: علم مؤكد يقيني، وفوقه عين اليقين: ((ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ))[التكاثر:7]، وهو الشيء الذي تأكد عند الإنسان بالمعاينة والمشاهدة والرؤية أو ما يقوم مقامها، فهذا يسمى عين اليقين؛ لأنه أمر يقيني قطعي شاهدته بعينك، أو وجد ما يقوم مقام المشاهدة، كأنك تشاهده بعينك كأنك تراه، كما قال: (أن تعبد الله كأنك تراه). وأما هنا فقال: (حق اليقين) فوق هذا كله حق اليقين، هو الشيء الذي تذوقه وتلابسه، فإذا دخل أهل النار النار هذا حق اليقين بالنسبة لهم، لم يعد شيئاً يجادلون فيه في الدنيا، ولم يعد شيئاً يرونه فقط بعيونهم، وإنما هو أمر أصبحوا يواجهونه ويعانونه ويلابسونه ويذوقونه، فهذا حق اليقين، وهو أعلى الدرجات، وهكذا بالنسبة لأهل الإيمان. إشراقات في قوله تعالى: (فسبح باسم ربك العظيم) وختم السورة الكريمة بقوله: ((فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ))[الحاقة:52]، سبح باسمه سبحانه، بأسمائه الحسنى، ونزهّه عما يقول الكافرون والظالمون، ووحده إذ جحد المشركون، واعترف بعظمته إذ نسبوا إليه الأنداد أو الصاحبة أو الأولاد.(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه السورة قال: (اجعلوها في ركوعكم)، يعني: قل في الركوع: سبحان ربي العظيم؛ تسبيحاً له وتنزيهاً وإقراراً بعظمته ومجده سبحانه. ولما نزلت: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى))[الأعلى:1] قَالَ: (اجعلوها في سجودكم). الركوع: تعظيم، تحية الملوك في الجاهلية كانت هي الركوع؛ فقال: (سبح باسم ربك العظيم) في الركوع وفي غيره، لكن الركوع معناه: تعظيم لله سبحانه وتعالى، فيناسبه أن تقول: سبحان ربي العظيم. والسجود: خضوع، يذل الإنسان جبهته بالسجود لله سبحانه وتعالى، والهبوط إلى الأرض؛ فيناسب أن يقول: سبحان ربي الأعلى، فيناجي الأعلى فوق عرشه وفوق سماواته بالاعتراف له والإيمان به والسؤال له جل وعز.فيا أيها المؤمن الكريم! سبح باسم ربك العظيم تسبيح الحامد المؤمن المنتظر لثوابه الخائف من عقابه.