ÇáÑÆíÓÉ ›محاضرات›خطبة الجمعة بأيرلندا›تأملات في سورة الفاتحة تأملات في سورة الفاتحة الخميس 5 ربيع الأول 1434هـ طباعة د. سلمان العودة 1348 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص وأخيراً قلت لنفسي سورة الفاتحة التي يحفظها الجميع ويقرؤها الجميع، لماذا لا نستخرج منها بعض هذه الأفكار الجميلة المهمة، ونجدد الحديث حولها حتى تبقى محفورة ومحفوظة في نفوس الإخوة والأخوات. هذه السورة التي يقول عنها كثير من المفسرين، بل ورد في آثار عديدة أن القرآن الكريم جمعت معانيه كلها في سورة الفاتحة، وأن سورة الفاتحة جمعت معانيها كلها في (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]. حمد الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى تبدأ هذه السورة بعد (( بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ))[الفاتحة:1] بـ(( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2]، الحمد: الثناء، التمجيد، الشكر لله رب العالمين، وهنا تلاحظ وصف الله تبارك وتعالى بأنه رب. إذاً: هو يحمد بالخصال والأوصاف والمعاني والأفعال التي له سبحانه، والتي تصدر منه، فيحمد لعلمه وحلمه ورحمته وفضله وعطائه وجوده وكرمه، وهو سبحانه الأحد الصمد الذي (( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ))[الإخلاص:3-4]. وهو الأول بلا ابتداء، وليس قبله شيء، والآخر بلا انتهاء، وليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، والباطن فليس دونه شيء، ولا يخفى عليه شيء، يعلم دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. يا من يرى مد البعوض جناحَها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُّحَّلِ ويرى مجاري الدم في أوداجها متحركاً من مفصل في مفصل اغفر لعبد كان من زلاته ما كان منها في الزمان الأول فيحمد بصفاته ويحمد بأسمائه، ( وله تسع وتسعون اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة )، فالمؤمن يتعرف إلى ربه بالقرآن، بالحديث، ويعرف أسماء الله وصفاته أو بعضها، فيزداد له تعظيماً وإجلالاً، ويعلم دائماً وأبداً أن كل ما يخطر في باله أو خياله أو تصوره من الأشكال، فالله تعالى بمعزل عنها ولا يشبهه شيء منها، وكل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به العقول، ولا تصل إليه الظنون ولا تدركه الأوهام؛ فهو سبحانه العلي الأعلى، ولكن المؤمن يأخذ إيمانه بالله أولاً من هذا الكون الذي يراه، وقد بني على سنن الانسجام والقوة والدقة والضبط، بما يستحيل معه أن يكون هذا الكون صادراً إلا من عند الله، ولو أن إنساناً رأى كتاباً مطبوعاً في المكتبة بالأرقام والألوان والدقة، والكتاب عبارة عن عشرة مجلدات مرتبة مضبوطة، وقرأ الكتاب من أوله إلى آخره فلم يجد فيه خطأً مطبعياً واحداً، وسأل: هذه المطبعة الراقية التي بنت وطبعت ووزعت وجلدت هذا الكتاب أين هي؟ فقال له قائل: أبداً، ليس وراء هذا الكتاب لا مطبعة ولا عمال ولا تدقيق ولا تحقيق، وإنما هذا الكتاب وجد من عند نفسه؛ لكان هذا مثاراً للسخرية والازدراء، وهو كذلك مما تجزم العقول معه بالاستحالة، فكيف إذا تخيلت هذا الكون، أو حتى هذا الإنسان نفسه وأجزاءه وأعضاءه وأجهزته التي كلها ناطقة بالله. فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة وفي كل تسكينة شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ذكر الله وتسبيحه وحمده على الدوام مع استشعار معنى ذلك فسبح الله أيها المؤمن، واجعل ذكره على لسانك، وهجيراك في قيامك وقعودك ويقظتك ومنامك وتقلب أحوالك، (( يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ))[آل عمران:191]، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ( كلمتان ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم )، حينما تأوي إلى فراشك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، حينما تركب سيارتك: (( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ))[الزخرف:13]. لكن إياك إياك أن تتحول هذه الأذكار والكلمات عندك إلى تقليد، وإلى روتين وإلى عادة، لا، قلها وأنت تستشعر العظيم الذي تمجده وتحمده بها، هذه كفارة لذنوبي، هذه رفعة لدرجاتي، هذه إزالة للهم والغم والاكتئاب والقلق، والخوف والحزن الموجود في قلبي، من هو الذي لا يوجد في قلبه هذا المعنى؟ لا أحد يوجد، كلنا ذلك الرجل، الكبير والصغير، والغني والفقير، والملك والضعيف، والرجل والمرأة، والموفق في حياته، وغير الموفق في حياته، كلهم بحاجة إلى جرعة من اليقين، جرعة من السكينة، جرعة من الإيمان، يكون القلب فيها متواطئاً مع اللسان. حينما تقول: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2]، تحمده أولاً على صفات الجلال والكمال والجمال والفضل التي اتصف بها، وبذلك تهيئ نفسك لتكون من الناس الذين يتاح لهم يوم القيامة أن ينظروا إلى وجهه الكريم، (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ))[القيامة:22-23]، لو أن الواحد منا نظر إلى جمال في الدنيا لأول مرة يراه، تجد أنه مندهش، وهو يقول: سبحان الله! سبحان الله! انظر إلى هذا الماء يجري في النهر في وسط الجبل، انظر إلى هذه الخضرة، انظر إلى هذه الأشجار تنبت من الصخور الصماء، شيء عجيب، فكيف إذا رأيت نعيم الجنة؟ ( ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، فكيف إذا رأيت وجه الله الكريم؟ يراه المؤمنون عياناً فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم؛ لأنهم رأوا الله عز وجل بجماله وجلاله وكبريائه وعظمته، ولا أحد يستطيع أن يتحمل هذه الرؤية لولا أن الله سبحانه يؤهلهم لها، وإلا فإن موسى عليه الصلاة والسلام (( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ )) قال الله له: (( لَنْ تَرَانِي ))[الأعراف:143] يعني: في الدنيا، (( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ))[الأعراف:143]، لكن في الآخرة يجعل الله تعالى للمؤمنين من القوة ما يتمكنون بها من رؤيته جل وعز، وهذا أعظم النعيم، ولهذا كان أعظم عذاب يعذب به الجاحدون والكافرون والمعرضون هو حرمانهم من ذلك، (( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ))[المطففين:15]. حمد الله تعالى على آلائه ونعمه وحينما يقول: (( رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2] يذكرك بقوله: (العالمين) بالخلق، وأن الله تعالى يحمد ويثنى عليه من وجه آخر؛ لأنه هو الذي خلق الخلق وأنعم عليهم. إذاً: نحن نحمده أولاً لصفاته وأسمائه، ونحمده ثانياً لآلائه وأفضاله ونعمه الواصلة إلينا، فهو الذي أعطانا السمع والأبصار والأفئدة، والأجساد والأرواح، والأزواج والعقول والقلوب، والصحة والعافية، والمال والأهل والولد، والنعم التي إن تعدوها لا تحصوها، وما أكثر عجبي منا ومن غفلتنا. حينما يركب الإنسان في السفينة في البحر وتصطفق بها الأمواج، ويبدأ العويل والصياح، ويشعر الإنسان بأنه في المصيدة، وأنه يعيش لحظاته الأخيرة، تجد أن الكل يتجهون إلى ربهم ويسألونه، بل حتى غير المؤمن يحدث منه هذا، فإذا وصلوا إلى البر ربما وجدت الكثير منهم بمجرد ما يصلون إلى الأرض، هذا المؤمن يسجد لله، وغير المؤمن يقبل التراب فرحاً بالوصول إليه، أو حينما يكونون في طائرة مثلاً في الجو وتبدأ الطائرة تتحرك ذات اليمين وذات الشمال، والخوف والرعب يسيطر على الركاب، وكل واحد منهم يتخيل بعد قلائل أنه سوف يكون قطعة من الفحم، وأن لهب النار المتزايد سوف يذيب لحمه وعصبه وعظامه ويقضي عليه، وأنه سوف يكون خبراً يذكر في الصحف والجرائد ووسائل الإعلام، فإذا كتب الله لهم النجاة ونزلوا إلى الأرض وجدتهم يركضون، المرأة غير المحجبة تضع الحجاب على رأسها، والإنسان المقصر يعاهد ربه أنه سوف يكون مصلياً، والعاق لوالديه يعاهد ربه أنه سوف يَصل، فإذا وصلوا إلى الأرض خروا سجداً وبكياً، وكأنهم ينسون أن الله تعالى كان أرحم بهم حينما أقلعت الطائرة، ونزلت ووصلت إلى هدفها دون أن يتعرضوا لمثل هذا الابتلاء، فينزلون وكأن الأمر عادي، وكأنهم ليسوا بمرأى الله سبحانه، وليس نزولهم برحمته وبركته وفضله، فما أكثر غفلة الإنسان وأقل يقظته. فحينما تقول: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2]، استحضر هذا المعنى، أرجوك اليوم وأنت تسمعها من الإمام أو تقولها في نفسك استحضر معنى الحمد، وأنك تقدم لله كلما تستطيعه من الشكر والثناء، وأنت تقول: لا أحصي ثناءً عليك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) لأسمائك وصفاتك أولاً، ولنعمك وآلائك وعطائك وفضلك ثانياً. اتصاف الله سبحانه بالرحمة وبيان أهمية امتثالها (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))[الفاتحة:3]، هذه بعض أسمائه وبعض صفاته، الرحمة، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، أرحم بالناس من أنفسهم وأمهاتهم وآبائهم، والدين رحمة، فالله تعالى شرع الإسلام كله رحمة وبعث الأنبياء كلهم رحمة، (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107]. وأخبر الخلق بالآخرة رحمة، حتى قال سفيان الثوري: [ إن الله تعالى جعل الجنة رحمة -وهي كذلك- يرحم بها من يشاء، وجعل النار رحمة يزجر بها عباده عن المعصية إلى الطاعة ]، وأمرنا أن نسأله رحمته، حتى كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يدعو ويقول: [ يا من رحمته وسعت كل شيء، أنا شيء فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين ]، ولكن من أحب أن يحصل على رحمة الله فعليه أن يكون هو رحيماً؛ ( فإنما يرحم الله من عباده الرحماء )، ( والراحمون يرحمهم الرحمن )، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فكن رحيماً، كن رحيماً بإخوانك المسلمين، لا تغلظ عليهم في قول ولا فعل ولا تقس عليهم، ولا تظلمهم في نفس ولا أهل ولا مال. وأحق الناس بالرحمة هم أقرب الناس إليك، الرحمة بالزوجة بالصبر عليها، امرأة في غربة وفي كربة وعندها مشكلات كبيرة جداً، وأطفال وأمور البيت، فعليك أن ترحم هذه المرأة وأن تصبر على ما قد يبدر منها. الرحمة بالأطفال والصبيان، ( وقد جاء بعض الصبيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان يحضنهم ويقبلهم، فرآه رجل وقال: تقبلون صبيانكم، والله إن عندي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم )، كان بعض الجفاة من الأعراب يظنون أن تقبيل الصبيان واحتضانهم عيب، ( فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوأملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ من لا يرحم لا يُرحم ). يا أخي المسلم! إذا أتيت بطفلك ووضعته في حجرك، وبدأت تقبله وتضمه إليك تذكر أن هذه ليست فقط فطرة أو غريزة، نعم هي فطرة وغريزة؛ لكن هي أيضاً عبودية، الله يراك من فوق عرشه ويحب ذلك، ويفرح به ويجازيك عليه، ويرحمك برحمتك لهذا الصبي الصغير، كم سوف يسجل هذا المعنى من ينابيع الرحمة في قلبك حتى على صبيان الناس، بل أقول حتى على صبيان من غير المسلمين، ربنا سبحانه يقول في محكم التنزيل: (( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ))[التكوير:8-9]، فالموءودة هذه من؟ هل هي من أولاد المسلمين؟ لا، الموءودة هي التي كان آباؤها يقتلونها في الجاهلية وهي صبية صغيرة إما خوف العار، أو خوف الحاجة، فالله تعالى يوم القيامة يبعثها ويحاسب وليها ويسأله توبيخاً وتقريعاً له على رءوس الخلائق: لماذا وأدت هذه الموءودة؟ (( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ))[التكوير:9] وهي لم تكن مؤمنة ولا مسلمة، كانت في الجاهلية ووليها كان كذلك. أليس في هذا ما يفجر ينابيع الرحمة فينا حتى لغير المسلمين، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أفلا ينبغي أن نكون نحن ورثة هذه الرحمة، في رحمة الناس بالإشفاق عليهم، بالصبر عليهم، بدعوتهم بالخلق الكريم والكلمة الطيبة؟ بلى والله. إذاً: (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))[الفاتحة:3]، هذا المعنى الذي يولد عندنا مثل هذه الرحمة في قلوبنا. نظرة الإسلام المتوازنة إلى الدين والدنيا (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))[الفاتحة:4]، يوم الجزاء والحساب، وفي ذلك إشارة إلى الفيصل بين الإيمان والمادية، أصحاب الماديات يؤمنون بالدنيا فقط، أما المؤمن فيؤمن بالدنيا، نعم يؤمن بالدنيا ولكنه يؤمن بالآخرة أيضاً؛ ولهذا يقول ربنا سبحانه: (( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ))[البقرة:101-201]، من الخطأ أن نظن أن الإيمان والإسلام جاء ليجعلنا رهباناً بعيدين عن الحياة، الإسلام جاء لينظم الحياة، وليحفزنا على الزرع وعلى البناء وعلى التصنيع، وعلى العلم، وعلى المعرفة، ولكن كل ذلك في قالب من الإيمان بالله والاستعداد للآخرة، ولهذا يقول نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة )، يعني: نخلة صغيرة، هل قال صلى الله عليه وسلم: فليرمها وليسرع إلى المسجد أو يستقبل القبلة ويصلي؟ لا، قال: ( وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها؛ فله بذلك أجر )، إذاً: المؤمن يعمل في الدنيا وهو يرجو الرزق والمكسب الحلال، ويرجو الأجر في الآخرة، فيكون ذلك حافزاً إضافياً. في إحدى المرات زرت مدرسة إسلامية في أوروبا فوجدت مكتوباً على السبورة: باب فضيلة الفقر، فقلت للأستاذ: هداك الله وأي فضيلة للفقر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه كما يستعيذ بالله من الكفر، ويستعيذ بالله من الجوع؛ الفقر مسغبة وحاجة إلى الناس، وذهب أهل الدثور -أهل الأموال- بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم في الدنيا وفي الآخرة، الإسلام لم يأت ليجعل من أتباعه دراويش ولا جهلاء، ولا أغبياء ولا متخلفين، وإنما جاء ليربطهم بالآخرة ويجعل عملهم في الدنيا مضاعفاً من أجل الدنيا وعمارتها، ومن أجل الآخرة والفوز بجناتها. العبودية لله سبحانه وتعالى والاستعانة به في أمور الدنيا والدين ثم يقول: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]، وهذا لب المقصد، ففيها جانب العبودية لله سبحانه وتعالى التي تبدأ بالشهادة وتنتهي بالشهادة أيضاً، ( فمن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة )، العبودية لله تبارك وتعالى والإيمان به والخضوع له. وأيضاً (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5] يعني: نطلب العون منك على أمورنا، العون على العبادة نعم، وأيضاً نطلب العون على أمور الدنيا؛ فإنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله تبارك وتعالى. وأيضاً (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5] يعني: نطلب العون على المصائب وعلى المشكلات وعلى الأزمات؛ فإن الحياة مليئة بالأزمات، تأتي أحياناً أزمة اقتصادية وفقر وجوع يحتاج إلى مقاومة، وتأتي أحياناً أزمة صحية أو طبية أو مرض يتفشى في الناس، أو تأتي أزمة فردية، فما من أحد منا إلا وتمر به أزمة نفسية أحياناً وحالة من الاكتئاب والقلق، أو أزمة صحية أو أزمة مالية، أو أزمة عائلية، مشكلة بين الزوج والزوجة، والمساكين هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين لا يعرفون ماذا يجري، هذه الأزمات يحتاج الإنسان إلى قوة وإلى سند، ولا قوة ولا سند أعظم من قوة الله تبارك وتعالى، لكن تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. دعاء الله بالهداية والتوفيق وسعة الصدر للآخرين ثم يتوجه المؤمن بعد ذلك بالدعاء (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ))[الفاتحة:6-7]. (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))[الفاتحة:6]، هذه الآية الكريمة يا أخي معناها: أن الإنسان في حياته في اليوم الواحد؛ لأنك تقولها وأنت مهدي، الصراط المستقيم: هو الإسلام وأنت مسلم، القرآن وأنت تقرأ القرآن، الصلاة وأنت تصلي، الصراط المستقيم أوسع من ذلك، في كل يوم تمر بك حالات عديدة، عندك أكثر من طريق حتى في أمور الدنيا، عندك مشروع، قبل قليل أحد الإخوة يسألني مثلاً أن عنده أطروحة علمية ماجستير أو دكتوراه وعنده ثلاثة موضوعات أو أربعة، أيها الصراط المستقيم، أي واحد منها؟ هنا يحتاج الإنسان إلى سؤال وإلى دعاء. عندك أعمال، عندك دراسة، عندك زواج، تتزوج هذه أو تلك، أو أخت مخطوبة من عدد من الناس، أي واحد منهم أصلح لها؟ كل هذا داخل في الصراط المستقيم، الذي لا غنى لأحد عن الدعاء والسؤال، حتى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو هذا الدعاء، وكان في قيام الليل يدعو ويقول: ( رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق )، اليوم تجدون الخلاف بين الجماعات الإسلامية، الطرق، المذاهب، أساليب العمل. أذكر قبل ست سنوات جاءني أحد الإخوة من أيرلندا وقال: أنا أتيتك من ذلك البلد، والله رأيت في أحد المساجد بعض المسلمين يوزعون كتاباً، ومسلمين آخرين يوزعون كتاباً آخر، وتضاربوا وتدخلت الشرطة، فمن ذلك اليوم وأنا كنت قلقاً، لما أتيت أمس لم يكن عندي رغبة شديدة أن أسأل الإخوة عن الوضع هنا؛ لأنني خشيت أن أسمع التجربة التي أسمعها في كل بلد أوروبي وفي كل بلد إسلامي، الاختلاف والتناحر والتطاحن، وكل واحد يعتقد أنه على صواب وأن الآخرين على خطأ، وأنه مخلص والآخرين غير مخلصين، وأنه مهتد وهم غير مهتدين، وأنه ينفع الإسلام وهم يضرون الإسلام. لكنني لما سمعت من الشيخ حسين أكرمه الله والإخوة، سمعت ما يسرني وما يبهجني من وجود قدر من التقارب وقدر من الوحدة، والمؤسسات الجماعية، والأمور الطيبة التي جعلت الصورة تنعكس عندي، حتى أصبحت أعتبر أن ما يجري للمسلمين في هذا البلد هو أنموذج طيب يحتذى في أكثر من بلد أوروبي، وينبغي أن نكون حريصين فعلاً على دراسة كيفية التعامل مع الاختلافات التي تجري بيننا، وأن لا تتحول إلى سبب في القطيعة، أو الوقيعة، أو التناحر، الطرق كثيرة جداً، هناك طرق متوازية ليس بالضرورة أن تكون طرق متقاطعة، وليس بالضرورة أن نكون على قلب رجل واحد، هناك طرق كثيرة جداً، كلها تؤدي إلى الخير، اختلاف تنوع، اختلاف اجتهاد، اختلاف في الرؤية والنظر والزاوية مع صفاء النية ومع صفاء القلب. إذاً: (( الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))[الفاتحة:6] يستوعب ذلك كله، ويجعل المسلم دائماً وأبداً يراجع نفسه ويراجع قراراته ويراجع خياراته، ويطلب من الله تعالى العون ولا يستبد برأي. أهمية القدوة الحسنة في حياة المسلم (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))[الفاتحة:6-7]. إذاً: هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، صراط معتدل مستقيم، أقرب طريق موصل إلى الله وإلى رضوانه وإلى الدار الآخرة، هذا أيضاً يربينا على موضوع القدوة؛ لأن الله تعالى لما ذكر الصراط المستقيم ذكر الذين سلكوه (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ))[الأنعام:90]، يذكرنا بأهمية القدوة، وجوب وجود القدوة، وأن المسلمين أنفسهم يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا البلد، وفي كل بلد، خلق المسلم، طريقته في التعامل حتى في الذوق، في الجمال، في الشكل، في الملبس، في الابتسامة، في التصرف، في موقف السيارة، في التعامل مع الجار، بمعنى أن الآخرين ليس بالضرورة أنهم سوف يبحثون عن هذا الدين، ولكن ربما يلفت نظرهم أن الذين ينتمون إلى هذا الدين يتميزون بأخلاق عالية، وانضباط عال في المجتمع، وخلق كريم وصبر وتواصل. وهناك قصص كثيرة جداً نحفظها لأناس دخلوا في الإسلام بسبب هذا الخلق الذي لاحظوه على بعض المسلمين، الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم يعجبهم التعامل الإنساني الراقي، وقد ( جيء بجنازة ) -كما في صحيح مسلم- ( فمُر بها على النبي صلى الله عليه وسلم فقام، فقالوا له: يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أليست نفساً؟ ). إذاً: مثل هذا المعنى أن تتخيل كل إنسان بحاجة إليك، الابتسامة التي تقدمها، المصافحة الدافئة، الصبر، الاعتذار إذا حصل منك خطأ ولو بسيطاً، مثل هذه المعاني تقدم نموذجاً جيداً راقياً للإسلام، وتقدم القدوة الحسنة، شعور المسلم بأن تصرفاته محسوبة، ليس فقط تتصرف كإنسان تقول: أنا حر! لا، تصرفاتك محسوبة على الدين الذي تمثله وتنتمي إليه. ومن هنا ينبغي أن نكون حريصين على القدوة الحسنة، (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))[الفاتحة:7]، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، وقال: (( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ))[غافر:60]، وقال عز من قائل: (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ))[البقرة:186]، اللهم إنا نسألك باسمك العظيم، ووجهك الكريم، وسلطانك القديم، وكلماتك التامات، التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، وأنك أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنك بكل شيء عليم، وأنك الواحد الأحد الصمد الذي (( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ))[الإخلاص:3-4]، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام. ونسألك بكل وسيلة محبوبة عندك مرضية لديك تجيب من سألك بها ودعاك في ليل أو نهار أو بر أو بحر، أو أرض أو سماء، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام إلا غفرت لنا وللمسلمين أجمعين، اللهم اجمعنا والمسلمين على الحق والهدى، اللهم اجمعنا وإياهم على ما تحب وترضى، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، اللهم أصلح فساد قلوبنا وأصلح فساد عقولنا وأصلح فساد حياتنا، واجمعنا على الحق والهدى، اللهم أصلح ألسنتنا وسدد أقوالنا وأعمالنا. اللهم أغننا يا حي يا قيوم، اللهم أغننا غنىً لا يطغينا، وارزقنا صحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل. اللهم أطل أعمارنا في طاعتك، واختم لنا بالشهادة في سبيلك يا حي يا قيوم، واحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ربنا اغفر لنا ولوالدينا، وأزواجنا وذرياتنا وجيراننا ومعارفنا، وأحبابنا وأصدقائنا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، برهم وفاجرهم، قريبهم وبعيدهم، عالمهم وجاهلهم، اللهم وفقهم لكل خير، اللهم أصلح قلوبهم ونفوسهم ودنياهم وأخراهم، وتقبلهم في عبادك الصالحين. اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار وما اختلف به الليل والنهار، واجمعنا والمسلمين على ما تحب وترضى، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وأقم الصلاة. السابق جمال المشهد بظهور الإسلام في بلاد أوروبا خطبة الجمعة بأيرلندا مواضيع ذات صلة القول بأن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة لطيفة حول التعبير بنون الجماعة في قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين) بيان الصراط المستقيم المذكور في قوله (اهدنا الصراط المستقيم) سبب ذكر الاستعانة بعد العبادة في قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) من معاني الحمد افتتاح الفاتحة والقرآن بالحمد لله