ÇáÑÆíÓÉ ›دروس›إشراقات قرآنية›جزء المجادلة›سورة الصف سورة الصف الاثنين 5 رمضان 1436هـ طباعة د. سلمان العودة 6365 متابعة النص إلغاء متابعة النص الأنتقال الى النص بين يدي سورة الصف أسماؤها وعدد آياتها ومكان نزولها سورة الصف أيضاً عرفت بهذا الاسم: سورة الصف.ومن أسمائها كما ذكر السيوطي : سورة الحواريين، وسماها بعضهم بسورة عيسى؛ لذكر عيسى والحواريين فيها.وعدد آيات هذه السورة أربع عشرة آية، وهي مدنية عند الجمهور، وقيل: إنها مكية، ونسب هذا لـابن عباس . وقال بعضهم: إن فيها المكي وفيها المدني.والصواب: أن السورة مدنية. إشراقات في قوله تعالى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ...) استفتحها سبحانه بقوله: ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الصف:1]، وهذا التسبيح هو كما سبق، تعبير بلفظ الماضي، إشارة إلى عراقة التسبيح، وهو أيضاً إشارة إلى قدم الرسالات التي أرسل الله تعالى إلى عباده، حتى آدم عليه الصلاة والسلام هو نبي مكلم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.وقوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الصف:1] وإن كان مر في سورة في غير ما موضع، إلا أنه هنا متصل بسياق السورة، فقوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الصف:1]، (العزيز) إشارة إلى عزته وغلبة الذين يطيعونه، كما قال في آخر السورة: ((فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ))[الصف:14]، فهذا من عزته سبحانه أن يعز أولياءه، وهو الحكيم أيضاً، فمن حكمته: أنه يرسل الرسل تترى، ويجعل لكل رسول شريعة وحكماً، كما أرسل موسى ثم أرسل عيسى مصدقاً لما بين يديه، ثم أرسل محمد صلى الله عليه وسلم خاتماً للرسل و(( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ))[المائدة:48]، فهذا من معاني الحكيم أيضاً. إشراقات في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ...) ثم قال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2]، وهذا عتاب لهم، ((لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2]، وكأن هذا إشارة وتحذير من حال اليهود الذين كانوا يملئون أفواههم بالادعاء والفخر، وهم لا يفعلون ما يقولون، فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يقولوا ما لا يفعلون، وقد ورد في سبب نزولها كما في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد و الترمذي وغيره: أن مجموعة من الصحابة اجتمعوا، وقالوا: لو عرفنا أحب الأعمال إلى الله تعالى حتى نعمله، فأخبروا أن أحب الأعمال إلى الله تعالى الجهاد، فكأنهم نكلوا وتراجعوا وخافوا: ((إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً))[النساء:77]، فعاتبهم الله تعالى على ذلك، وقال: ((لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2]، هذا معنى.إذاً: معنى: ((لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2]لم تعدون بأمر ولا توفون به؟! ومن هنا أخذ بعض أهل العلم وجوب الوفاء بالعهد.. بالوعد في هذه الآية الكريمة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: -ومنها-: إذا وعد أخلف)، من حديث ابن عمر وحديث ابن عمرو وحديث أبي هريرة . إذاً: الآية تدل على وجوب الوفاء بالوعد، وقيل: يجب الوفاء بالوعد إذا ترتب عليه التزام كما قاله الإمام مالك ، يعني: لو قلت لواحد: تزوج وأنا سوف أعطيك عشرة آلاف ريال، يجب الوفاء؛ لأنه تزوج بناء على هذا الوعد، و جمهور أهل العلم يرون أنه لا يجب الوفاء بالوعد، لكن لا يجوز للإنسان أن يتعمد أن يعد ويخلف.بمعنى: لو وعد ثم طرأ عليه أن يخلف لعارض لا حرج عليه؛ لأن هذا لا يلزم إلا بالقبض، الهبة لا تلزم إلا بالقض مثلاً، أما أن يكون الكذب على لسانه فهذا مذموم، وكذلك الآية فيها تحذير من الكذب، أن يقول الإنسان ما لا يفعل؛ ولذلك جاء في سبب النزول عند كثير من المفسرين أن بعض الناس كان يقول: قاتلت ولم يقاتل، ويقول: فعلت.. أو يقول: صليت ولم يصل، أو حفظت ولم يحفظ، وبعض الناس يبتلى بهذا الادعاء، حتى ورد: (أن صهيباً قتل رجلاً فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه، فجاءه عمر وقال: إن فلاناً يدعي أنه هو الذي قتله، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلف أنه هو الذي قتله)، فنزلت هذه الآية. إذاً: الآية أيضاً تحذر من الادعاء، وتحذر من الكذب.لكن فيه معنى يلتبس عند بعض الناس، وهو أن قوله: ((لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2]، يعني: أنه لا يصلح للإنسان أن يأمر بشيء ولا يفعله هو، فمثلاً: لو أننا عملنا هذه الجلسة عن فضل التبكير إلى المساجد، والواحد منا لا يأتي إلا قبيل الإقامة، أو عن فضل قيام الليل والواحد لا يقوم الليل، أو عن فضل الصدقة وهو لا يتصدق، هل يأتي واحد ويوبخه ويقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2]، لا؛ لأن الأمر بالخير خير، ولو لم يفعله الإنسان ، و الإنسان واجب عليه أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وأن ينهى عن المنكر ولو كان واقعاً فيه أيضاً.وكما قال الإمام القرطبي عن بعض الأصوليين أنه قال: واجب على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً ، ويكاد أن يكون العلماء مجمعين على أن الإنسان يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، يأمر نفسه وأهله، لكن ليس على سبيل السخرية، وينهى عن المنكر ولو كان واقعاً فيه، لكن ليس على سبيل السخرية، هذا المعنى لا يدخل في الآية، ومن أدخله في الآية فقد التبس الأمر عليه.أما قوله عز وجل: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ))[البقرة:44]، فهذا لا شك أنه توبيخ للعالم: أنه كيف يأمر الناس وينسى نفسه؛ لأن الجاهل يفهم تماماً: لماذا لا يعمل؟ لعدم العلم، لكن العالم الذي لديه العلم عنده حافز كافٍ لأن يعرف ويتعلم، فكونه يأمر الناس وينسى نفسه فهذا يوبخ عليه لا شك، ولكن هذا لا يعني أنه لا يأمر، لا. يقال: يأمر نفسه ويأمر غيره، ولو وقع منه شيء من التقصير في ما يعمل هو ربما يعوض ذلك بكونه يأمر الآخرين بالبر على سبيل الصدق، هذه قضية فيها لبس عند كثير من الناس؛ ولهذا الآن الخطباء في المساجد والدعاة في المحاضرات، والبرامج في محطات التلفزة وغيرها، يعني: هل كل ما يقول الإنسان أو ما يوجه أو يأمر أو ينهى معناه أنه لا بد أن يكون هو ممتثلاً وملتزماً بكل هذه الأشياء، أشياء فيها واجبات، فيها سنن، فيها مستحبات، فيها فاضل ومفضول، وقد يكون الإنسان مبتلى أحياناً بشيء من التقصير أو النقص أو العيب أو حتى هب أنه مبتلى بالإدمان، على ثغرة، أو نقص من النقائص، أو عيب من العيوب، أو سوءة أخلاقية، أو صغيرة من الصغائر موجودة عنده، هذا لا يعني أن يقطع عليه طريق الدعوة وطريق التوجيه وطريق الإصلاح، بل ربما يسعى إلى التكفير عن طريق محاولات التأثير على الآخرين وذكر التجارب المفيدة والحديث في الجوانب التي يحسنها والتي يتقنها، فهذا مما تجتمع عليه النصوص الشرعية، وتقتضيه المفاهيم السليمة. إشراقات في قوله تعالى: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) قال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:2-3]، وهنا عبر بالمقت، وكبر المقت، أما كبر، يعني: عظم، والمقت هو أشد البغض، وإذا كان البغض من الناس أمراً صعباً، فكيف إذا كان بغضاً شديداً، فكيف إذا كان بغضاً من الله؟ ((كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ))[الصف:3].لا تدعي شيئاً لم تفعله، لا تتفاخر بأمر لم يحدث منك، أو تحب أن تحمد بما لم تفعل، لا تعد وفي نيتك ألا تفي، هذه قيم أخلاقية يربى الناس عليها. إشراقات في قوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله...) ثم قال سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ))[الصف:4]، كما أنه قال: ((كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ))[الصف:3] أشد المقت.. أشد البغض مقابل ذلك الحب، فالله تعالى قيد المقت والبغض لهؤلاء الأدعياء الذين يقولون ما لا يفعلون، وقابله بالحب للذين يقاتلون في سبيله، ليس في سبيل الدنيا أو المطامع أو المطامح أو المقاصد أو العصبيات أو التوسع، لا، وإنما في سبيل الله، حماية عن الشريعة وذوداً عن حياضها، وحفظاً لمقام الإسلام، ودفعاً لغوائل الشر والعدوان عن الدين وأهله.((يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا))[الصف:4]، فوصفهم بالصف، يعني: صافين، مصطفين، والصف يكون في الصلاة، ويكون في الحرب، وهو إشارة إلى النظام، وأن النظام والانضباط جزء من القيم الإسلامية ، يكون في العبادة التي يكون الناس فيها أمام ربهم، ويكون في الجهاد الذي هو من أعظم شرائع الإسلام وهو ذروة سنامه، ويكون أيضاً في سائر شئون الحياة، يعلم الناس الانضباط والاصطفاف، ووحدة الكلمة والتقارب، وتجنب الخلاف على النفوس والقلوب؛ ولهذا قال سبحانه: ((كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ))[الصف:4]، هم بشر، لكن أجسادهم كأنها بنيان مرصوص متلاحم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً) ، وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) ، فوصفهم بهذا المعنى في الود والعطف والرحمة، وهنا هم كما قال سبحانه: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))[الفتح:29]، هذا الود كأنهم بنيان مرصوص فيما بينهم، كالجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص، وكذلك هم أمام أعدائهم.والمرصوص هو الذي التصق بعضه ببعض، ويجوز أن يكون معنى المرصوص يعني: الذي وضع عليه الرصاص، كما ذكر الفراء وغيره من أئمة اللغة واختاره ابن العربي ، وذكر مبانٍ في الشام وغيرها وضع فيها الرصاص فتكون من أقوى ما يكون وأمتن ما يكون من البناء، صب عليها الرصاص حتى إنه لا يزول، ويكون فيه قوة ومتانة، فوصف الله تعالى المؤمنين بهذا المعنى، وفي ذلك إشارة إلى قيمة عظيمة من قيم الوحدة بين المسلمين، وتقارب قلوبهم وأجسادهم، وبرامجهم ومشاريعهم، وأن الله تعالى يحب هؤلاء.ومفاده أن الله تعالى لا يحب أولئك الذين تفرقوا، أو فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، واختلفوا فكانوا هكذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك إذا صرت في حثالة من الناس تفرقوا واختلفوا وكانوا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه)، يعني: واحد ذهب شرقاً، وواحد ذهب غرباً، وليس فقط أن كل واحد ماضٍ في سبيله، وإنما دائماً هم يفتعلون فيما بينهم المعارك والخصومات، ويبحثون عن أي سبب للخصومة فيما بينهم، فإذا لم يجد الواحد منهم سبباً يخاصم فيه الآخرين افتعل سبباً، وإذا لم يستطع أن يفتعل أو لم يجد أحداً يخاصمه فإنه يخاصم نفسه في المرآة. هؤلاء لا يحبهم الله ولا ينصرهم. إشراقات في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني ...) قال سبحانه: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))[الصف:5]، فذكر الله تعالى طرفاً من قصة أهل الكتاب، قوم موسى ، (لم تؤذونني) (وقال موسى لقومه)؛ لأنهم قومه وجماعته ونسبوا إليه، ((وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ))[الأعراف:159]، فذكرهم الله تعالى في القرآن باسم قوم موسى ، ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ))[الصف:5]، وناداهم بهذا النداء المحبب الذي يجعلهم يستجيبون له ويستمعون إليه، ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))[الصف:5]، على سبيل التحبب والصبر عليهم وسعة البال، ( لم تؤذونني ) وقد آذوه في أشياء كثيرة، ((لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ))[البقرة:61]، وفي قصة البقرة، وآذوه في قصة القرية، ولعل هذا أقرب ما يكون علاقة بالآية الكريمة، لما قالوا: ((إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا))[المائدة:22]، ثم قالوا: ((يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا))[المائدة:24]، كان عندهم تبجح وقلة أدب وقلة ذوق في تعاملهم مع نبيهم عليه الصلاة والسلام، ومع ربهم عز وجل، فهو هنا يخاطبهم ويلاطفهم، يا قوم! لم تؤذونني، وقد ورد أن أذيتهم وصلت حتى إلى مستوى تعييره عليه الصلاة والسلام، حتى كما في حديث في صحيح البخاري أنهم قالوا: (إن موسى رجل آدر) يعني: اتهموه أن في أعضائه التناسلية مشكلة أو انتفاخاً؛ على سبيل التعيير وبذل الحديث، وهكذا كل قوم خزن عنهم العمل وابتلوا بالقول، يبحثون عن أي شيء حتى يكون سبباً للقيل والقال وغير ذلك، فلما أذن الله تعالى أن يراه كثير من الناس بعدما خرج اغتسل وذهبت ثيابه فرآه الناس أجمل ما كان وأحسن ما كان، وعرفوا أن هذا كان إفكاً وكانت فرية افتروها عليه، قال الله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا))[الأحزاب:69].هنا هو يقول: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))[الصف:5]، يقول: ( وقد تعلمون ) يعني: لم يقل: وقد علمتم، وإن كان هذا هو المعنى، أن (قد) تدل على التحقيق، يعني: التأكيد أنكم تعلمون، وإنما يقصد تعلمون، أي: أن علمكم يتجدد، فالآيات والعبر، وكانت الآيات مع الأنبياء السابقين مستمرة معهم، وقد حصل لـموسى عليه الصلاة والسلام من الآيات كما ذكر الله تعالى في سورة البقرة وفي غيرها آيات عظيمة، وغير ذلك مما ذكره أيضاً، ((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ))[الأعراف:133]، فهم باستمرار يتلقون الأدلة والبراهين على رسالته؛ ولهذا قال: (وقد تعلمون) أي: يتجدد لكم العلم بأني رسول الله إليكم، ومع ذلك تؤذونني وتنكلون عني وترفضون القيام بالمهمات الجسيمة التي تقتضيها منكم مهمة الاتباع، والرسالة. ومن ذلك: ((يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ))[المائدة:21].قال سبحانه: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ))[الصف:5]، يعني: أصروا على الضلال، وعلى الزيغ، وعلى التلاعب بالمعاني الإيمانية، أزاغ الله قلوبهم فصرفهم عن الحق فهم لا يهتدون؛ ولهذا قال: ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))[الصف:5]، فوصفهم هنا بالفسق، كما قال سورة المائدة: ((فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ))[المائدة:25] قال سبحانه: ((قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ))[المائدة:26]، فسجل عليهم الفسق، و أشد وأشنع ما يكون الفسق حينما يكون الفسق من العلماء الذين يعرفون ويعصون على بصيرة. وفي ذلك: إشارة إلى بقاء هذه الأمة، وأنها لا تزول.وفي ضمن هذا إشارة إلى أن الله تعالى قضى وقدر أن يبقى الحق والباطل في صراع إلى قيام الساعة وإلى أن يشاء الله تعالى، فلا تزول هذه القوى، وسواء كانت معصيتها بعلم أو بجهل أو بكفر أو بغير ذلك، أن هذا باقٍ إلى قيام الساعة، ولا سبيل إلى استئصاله أو زواله، ومن شأن هذا أن يجعل عند المؤمن تواضعاً واعتدالاً في طموحه، الأرض لن تتمحض للخير، ولن يسيطر عليها كلمة الله تعالى في كل مكان كما كانت الشيوعية مثلاً تبشر الناس بالفردوس الموعود، أو كما كانت الليبرالية الغربية تتكلم عن نهاية التاريخ، وأن العالم انتهى واستسلم للنظرية الغربية ، الإسلام لا يوجد فيه هذا، وإنما يوجد فيه الإشارة إلى أن الخير والشر موجودان، مما يجعل المؤمن معتدلاً متواضعاً، لا يكون عنده اندفاع غير مدروس في دعوته ولا في عمله ولا في جهاده ولا في غير ذلك. إشراقات في قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم) الآن بعد قصة موسى وبني إسرائيل انتقل إلى نموذج آخر من أهل الكتاب أيضاً وهم النصارى . قال سبحانه: ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ))[الصف:6]، ولم يقل هنا لقومه: يا قوم؛ لأنهم ليسوا قومه، وإنما قال: ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ))[الصف:6]، فهو يخاطب بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى أصلاً.((إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ))[الصف:6]، وهم كانوا متعصبون للتوراة ، تعصباً مفرطاً وشديداً، فهو قال: ((إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا))[الصف:6]، معززاً ومؤكداً لما جاء من التوراة ؛ حتى يؤلف قلوبهم على القبول، وإن كان هذا التصديق لا يعني أنه لم ينسخ شيئاً منها؛ ولهذا قال: ((وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))[آل عمران:50]، ولكن هذا بعد ذلك.(ومبشراً)، إذاً: عيسى عليه السلام صلة بين موسى وبين محمد ، قال: ((وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ))[الصف:6]، فهنا البشارة: هي الإخبار بالأمر السار، وقد بشر كل الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى موسى عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله تعالى في الكتاب الكريم بشارة موسى لقومه: ((ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ))[آل عمران:81]، هذا ما يتعلق بـالنصارى .وكذلك فيما يتعلق بـموسى أخبر ببشارة محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك جاء في التوراة نفسها: أن الحق أشرق من سيناء ، وهو يعني: مكان نزول الوحي على موسى ، وبرز في ساعير وهو مكان نزول الوحي على عيسى ، وظهر في فاران و فاران : هو جبل بـمكة ، إشارة إلى بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا موجود في الرسالات السابقة وفي الكتب السابقة، وقد سجله وقيده فيما أظن محمد إقبال في قصيدته يقول: يا طيبَ عهدٍ كنت فيه منارنا فبعثت نور الحقِ من فارانوأسرت فيه العاشقين بلمحةٍ وسقيتهم كأساً بغير دنانأشرقتَ فيه قلوبهم بتوهج الإيمان لا بتوقد النيرانِلم نبق نحن ولا القلوب كأنها لم تحظ من نار الهوى بِدُخانِوجاءت البشارة في الأناجيل، كما قال هنا: ((وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ))[الصف:6]، في إنجيل متى و إنجيل يوحنا ، وهذا موجود أحياناً باسم البارقليط: ومعناها أو ترجمتها. محمد، والإشارة إلى الناموس الذي يأتي بعدي وأنه الخاتم، إلى غير ذلك من العبارات الصريحة التي في بعضها الإشارة إلى اسم النبي صلى الله عليه وسلم محمد، وفي بعض الأناجيل الموجودة اليوم الإشارة إلى: وادي البكاء وهي هنا كلمة لا تعني البكاء، وإنما تعني البكاء، وقد كتبت بالحروف الكبيرة، مما يدل على أنها علم، إشارة إلى مكة ، فهنا تحريف بسيط جداً في الوادي، وادي مكة وادي البكاء ، هذا موجود في الأناجيل المتداولة اليوم بين أيدي الناس مع تواصيهم بكتمان الأمر، ويوجد من المنصفين منهم من يعترفون بذلك ويقرون به، فضلاً عن الإشارات الكثيرة جداً التي ليس فيها تصريح باسمه عليه الصلاة والسلام.قال هنا: ((وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ))[الصف:6]، وهذا من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، وهو صيغة مبالغة من الحمد، فهو أكثر الناس حمداً لربه عز وجل، وهو أيضاً أكثر الناس استحقاقاً للحمد؛ ولهذا من أسمائه أحمد ومن أسمائه محمد، وكذلك الماحي والحاشر والعاقب، وغير ذلك من الأسماء، حتى أن بعض العلماء أوصلها إلى تسعة وتسعين اسماً، وبعضهم أوصلها إلى ثلاثمائة اسم، كما فعل صديق حسن خان وغيرهم في أسماء النبي عليه الصلاة والسلام.وبعضها ألقاب أو صفات وليست أسماء، لكن هنا من أسمائه: أحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أسمائه: محمد، وهما اسمان متقاربان في الاشتقاق، لكن بينهما فرق في المعنى، كما ذكر ابن القيم في جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام .فإن أحمد يدل على الحمد، يعني: أنه يحمد ربه سبحانه، أما محمد فتدل على حمد الناس له، يعني: مثل مكرم أو معزز: أن الناس يكرمونه أو يعززونه، فتدل على جميل الصفات والخصال والكمالات، والفضائل والخلائق الموجودة فيه عليه الصلاة والسلام، كما يروى عن حسان : وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهدوشق له من اسمه كي يجله فذو العرش محمود وهذا محمد((فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ))[الصف:6]، وهنا لما قال: ( جاءهم بالبينات )، لم يذكر من هو الذي جاءهم، هل الكلام عن عيسى أو عن محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل الذين قالوا هذا هم قوم عيسى رفضوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: النصارى ؟ أو هم العرب من أهل مكة الذين قالوا: هذا سحر مبين؟ جعل الله ذلك كله مبهماً؛ لتشمل الآية كل هذه المعاني، ويعزز هذا قوله سبحانه: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ))[الذاريات:52]، قال الله سبحانه وتعالى: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ))[الذاريات:53]، كأن هذه يتلقاها بعضهم عن بعض، وكل منهم يرثها عمن سبقه. إشراقات في قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب...) قال سبحانه: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ))[الصف:7]، أي: لا أحد أشد ظلماً ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام، وهذا يحتمل أن يكون المقصود فيه العرب الذين كذبوا على الله سبحانه وتعالى، وقالوا: ((مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ))[الأنعام:91]، وهم يدعون إلى الإسلام، والأقرب عندي أن المقصود بذلك أهل الكتاب، أولاً: لسياق الآية، ( وإذ قال عيسى ). وثانياً: لأنهم الأقرب أن يقال عنهم: إنهم افتروا على الله الكذب؛ لأنهم أهل كتاب، وتمكنهم من الكتاب سواء اليهود أو النصارى كان يجعلهم أنهم يحاولون أن يلتمسوا من كتابهم ما يدفعون به الحق، ويردون به الصواب، ويخدعون به دهماء الناس وعوامهم.فالله تعالى هنا قال: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ))[الصف:7] يعني: من اليهود و النصارى الذين كذبوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: إن الرسالة لا تزال في بني إسرائيل مثلاً، وهم يدعون إلى الإسلام.قال: ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))[الصف:7] لأن هؤلاء بلغوا في الظلم مبلغه، فقد وصل بهم الظلم إلى أن ظلموا عقول الناس وحالوا بين الناس وبين الحقيقة وبين الإيمان وبين الهدى.فقال: ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))[الصف:7] هذا إشارة أيضاً إلى أن هذه الأمم النصرانية التي التزمت بـالنصرانية المحرفة التي قام بها قسطنطين ، ودخل فيها كثير من عقائد الوثنيين وغيرهم، واشتهرت، أنها سوف تظل باقية، فإن قوله: ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))[الصف:7]، إشارة إلى أن من هؤلاء الناس من لن يهتدوا، ولن ينصتوا للحق، وسيظلون متشبثين بما هم عليه، ومصرين على باطلهم، وهكذا كان وهكذا وجد. إشراقات في قوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم...) قال الله سبحانه: ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ))[الصف:8]، أي: أن يطفئوا، واللام هنا للتوكيد، ونور الله شيء عظيم، ويكفيك أنه نور، ويكفيك أنه من الله، وإذا كان الله تعالى ضرب المثل لنوره كما في سورة النور ((كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ))[النور:35]، فمن نور الله سبحانه وتعالى ما خلقه من الأنوار في الكون، مثل الشمس.. مثل القمر، من هو من البشر الذي يستطيع أن يطفئ نور الشمس، وبماذا يطفئها؟ بفمه، ( بأفواههم ) يعني: هذا مثار سخرية، أنهم يريدون أن يطفئوا نور الشمس بأفواههم، أو نور القمر، أو نور جرم من الأجرام، بمجرد أن ينفخوا فيه، هذا ليس مجرد شمعة تنطفئ هكذا، فكيف إذا كان هذا ليس نور الشمس، ولا نور القمر، أو كوكب من الكواكب، وإنما هو نور الله سبحانه وتعالى، وهو نور عظيم.والمقصود فيه هنا شيء معنوي، فيشمل ذلك الرسالة ويشمل ذلك الحق، ويشمل ذلك الإسلام، وهم هنا كانوا يحاصرون الإسلام بـالمدينة ، قريش حاصروا الإسلام بـمكة ، وحاولوا أن لا يخرج النبي صلى الله عليه وسلم منها، فخرج بالهجرة ولم يعودوا قادرين على السيطرة على الإسلام، جاء الإسلام في المدينة ، تحالفت عليها القوى كلها كما هو واضح من هذا السياق، وواضح من سياق السورة أنه كان هناك حلف من اليهود و النصارى والوثنيين، ومع أن اليهود و النصارى أهل كتاب، إلا أنهم تحالفوا مع الوثنيين ضد الإسلام، وقالوا لهم: ((هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا))[النساء:51]، يعني: أهل الوثنية والشرك، وهم يعرفون أن هذا باطل، لكن شدة العداوة وضراوة الحرب جعلتهم يتخذون هذا الموقف.ففي ظل هذا التحالف الله سبحانه وتعالى ينزل هذه السورة، ويدعو المؤمنين إلى أن يتحالفوا فيما بينهم، فيقاتلوا في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وأيضاً أن يقوموا بنشر دينه ونشر دعوته التي هي النور.قال: ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ))[الصف:8] ويعطيهم هذا الوعد، ويؤكد الوعد بقوله: ((وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ))[الصف:8] يعني: نوره تام وكامل وسيظل في الأزمان.((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))[الصف:8]، وكأن الحديث هنا هو عن المشركين، يعني: هنا قال: ((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))[الصف:8]، والكلام هنا عن أهل الكتاب من اليهود و النصارى ، فالغالب أنهم يوصفون بالكفر، وبعد ذلك المشركون، قال: ((وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))[الصف:9]، وهنا قال: ((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))[الصف:8]. إشراقات في قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق...) ثم قال سبحانه: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ))[الصف:9]، محمد صلى الله عليه وسلم: ((بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ))[الصف:9]، والهدى: هو العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح.فأرسله بالعلم والعمل، ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))[الصف:9]. ظهور الإسلام على الدين، وظهر كما قال، وظهر من فاران .والظهور له معنيان:المعنى الأول: الظهور بالقوة والحجة والبيان والبلاغة والرسالة والدعوة والتربية والتعليم، وهذا ظاهر جداً.والمعنى الثاني: هو الظهور بالغلبة والسلطان، وهذا أيضاً تحقق قدر كبير منه في أزمنة عديدة، لكن لا يلزم من هذا الوعد أن يتحقق بكماله في كل وقت؛ لأن هذا خلاف مقتضى الحكمة، وخلاف مقتضى الابتلاء، وخلاف مقتضى السنة الإلهية في ابتلاء بعض الناس ببعض، وأن الدهر دول، وأن النصر والهزيمة والقوة والضعف والكثرة والقلة بل والتمدن والحضارة والتخلف والجهل تنتقل وتتأثر بظروف ومعطيات كثيرة، وأيضاً هذا الوعد الإلهي هو حفز للمسلمين أن الوعد هنا من خلال فعل الناس، فهو هنا أشار إلى ظهوره على الدين كله، ومعناه: أن الأديان المشار إليها كلها ستكون موجودة، لن تنقرض ولن تندرس ولن تنته، ستبقى ولكن سيظهر الإسلام عليها بالقوة وبالغلبة وبالحجة وبالبيان، وهذا بواسطة من يسخرهم الله تعالى من المؤمنين، ففيه حفز للمؤمنين أن يبذلوا جهدهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.. في التأثير على الناس.. في مخاطبة الأمم والشعوب.وكم يشعر الإنسان بالأسى أن في هذا العصر على وجه الخصوص لم يكن المسلمون على مستوى المسئولية في إظهار هذا الدين، وفي إظهار مجالات قوته وبلاغته وإعجازه وتأثيره، لا في قولهم ولا في فعلهم، فعلى صعيد السلوك والممارسة والواقع الاجتماعي فإن المجتمعات الإسلامية فيها ألوان من الضعف والخلل الأخلاقي كثير، وفيها نقص في الانضباط، وفي الذوق، وفي الأخلاق، وربما تفوقهم الكثير من أمم الأرض، حتى إن بعض الذين أسلموا من الغربيين إذا جاءوا إلى البلاد العربية والإسلامية قالوا: نحمد الله أننا أسلمنا قبل أن نعيش في واقع المسلمين ونتعرف عليهم مباشرة. أحد الإخوة يذكر لي طرفة، يقول: هناك إنسان جاء يريد أن يسلم -طبعاً هي نكتة- المهم أنه زار إحدى الدول الخليجية، وقال: أنا أريد أن أتعرف على واقع المسلمين قبل أن أعلن إسلامي، فجاء وجالسهم ووجد أن هناك قدراً من الفوضى وعدم الانضباط، لم يجد النظافة كما كان يتوقع، ولا الترتيب، ولا الأخلاق الطيبة، ولا التعاون فيما بينهم على البر والتقوى، ولا التناصح، وجد أشياء كثيرة من الاختلالات تستغرب جداً، فوجئ الأخ الذي أحضره أن هذا الرجل في نهاية المطاف جاء وقال له: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال له: كيف؟ ما شاء الله غريب قال: يمكن عرف أشياء أنا ما أعرفها عن هذا المجتمع، قال: أنا لما نظرت إلى هذا المجتمع ووجدت ما فيه من الاختلالات والنقائص والعيوب، ومع ذلك وجدت المجتمع ماشٍ وأمورهم كذا، عرفت أن هذا لا يكون إلا برحمة وتسديد من الله سبحانه وتعالى، فآمنت بالله.فلا شك أن هذا خلل كبير جداً، وفتنة عن سبيل الله عز وجل، وكذلك فيما يتعلق بالقدرة البيانية، يعني: القدرة على البيان وتوظيف وسائل الإعلام، ومخاطبة العقول والأفكار، ربما حتى أن يوجد هذا الخاطر عند المسلمين الغالب عليهم أن هذا الأمر غير موجود، بل تتضافر جهود بعض المسلمين وجهود غيرهم في تشويه صورة الإسلام، و قل أحد يريد أن يشوه صورة الإسلام من الغرب أو الشرق إلا ويحاول أن يجد في بعض أعمال فئة من المسلمين خرجت عن سواء السبيل وانحرفت وأساءت توظيف بعض المعاني الشرعية ما يكون سبباً في تشويه صورة الإسلام، والصد عن سبيل الله. إشراقات في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) قال الله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ))[الصف:10]، وهنا أشار إلى (تجارة)، وهو معنى أن التجارة أمر طبيعي وعادي، وطبيعة النفوس تميل إليه، لكنه هنا ذكر (تجارة تنجي من عذاب أليم)، ما هذه التجارة؟ قال: ((تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ))[الصف:11]، وكأن ذكر التجارة هنا؛ لأن بعض المسلمين صدتهم التجارة عن الجهاد في سبيل الله، وعن العمل في سبيل الله، فذكر الله تعالى أن التجارة الأفضل مما انشغلتم به هي تلك التجارة التي تنجيكم من عذاب أليم، وقد يكون في ذلك إشارة إلى أن بعض ألوان التجارات الدنيوية تكون سبباً في العذاب الأليم، فإن من الناس من يكون ماله وتكون تجارته عذاباً ووبالاً عليه، وشغلاً له، وقد تكون سبب إصابته بالأمراض، أو نكسة له أو يرى أولاده ولا يرضى عنهم، فيعتقد بأنه تعب في جمع الأموال، ثم هم ليسوا بارين به كما يريد فيتعذب بذلك، وكما ذكر الله تعالى عن عدد من أهل الكتاب وغيرهم أنهم: ((يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ))[الأنفال:36]، فهو هنا سبحانه أشار علينا بالتجارة الطيبة المباركة التي تنجي من العذاب الأليم، وهي الإيمان بالله ورسوله، ولا يصلح عمل إلا بالإيمان بالله ورسوله.((وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ))[الصف:11].فـ(الجهاد بالمال) هو صرفه في مجالات الخير كلها، و(الجهاد بالنفس) هو أيضاً أن يبذل الإنسان نفسه في ذات الله عز وجل، سواء كان هذا بالجهاد الأعظم الذي هو مقاتلة الأعداء، أو كان ذلك بما دون ذلك من ألوان بذل النفس في ذات الله عز وجل، وألوان الكرم والجود التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسابقون من أصحابه.قال: ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))[الصف:11]، يعني: مما أنتم متشاغلون به، والدليل على أنه خير لكم: أن نتيجة ذلك أن يغفر الله لكم ذنوبكم، قال: ((يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ))[الصف:12]، وكأنه ذكر المساكن والجنات، إشارة إلى أن كثيراً من الناس تحرمهم أعمال الخير: الدعوة، الجهاد، خدمة الناس، الإحسان إلى الخلق، تحرمهم من الاشتغال بالتجارة، أو تحرمهم من طول المكث والبقاء في بيوتهم ومساكنهم، ويجدون أناساً آخرين عندهم بيوت مرفهة وجميلة ومساكن طيبة، فهم قد حرموا من ذلك، لكنهم عوضوا عنه بسعادة في صدورهم وقلوبهم بالعطاء الذي يجدونه. وأعظم من ذلك يوم القيامة: ((يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا))[الصف:12-13]، يعني: شيء مما جبلت النفوس على محبته و النفس مولعة بحب العاجل ، ما هذه الأخرى؟ الخصلة الأخرى أو العدة الأخرى: قال: ((نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ))[الصف:13]، وكأن هذا إشارة إلى فتح مكة ، كما قاله ابن عباس وغيره.وقال الحسن البصري : هو فتح فارس والروم، ولا مانع أن يكون المعنى في قوله: ((نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ))[الصف:13] أن يشمل ذلك كله، وأن يكون أوله فتح مكة ؛ لأن هذه السورة -والله أعلم- نزلت قبل فتح مكة ربما بسنة أو بسنتين؛ ولهذا قال: ((نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ))[الصف:13] أي: للمؤمنين، وهو سبحانه قال في آخر الأمر: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ))[النصر:1] إذاً: النصر والفتح في حياته عليه الصلاة والسلام، بفتح مكة ودينونة الجزيرة العربية ووضع الأساس لهذه الدولة الفتية العظيمة.هنا قال: ((وَفَتْحٌ قَرِيبٌ))[الصف:13] يعني: في الزمان، سنة أو سنتين أو ثلاث، وكل آت قريب.قال سبحانه: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))[الصف:13]، وكل ذلك من إعجاز القرآن الكريم، فإن إسلام العرب وفتح مكة ، والنصر، ودخول الناس في دين الله عز وجل، وغير ذلك مما وعد الله تعالى به، كله من الأخبار بالغيب الذي وقع كما أخبر به عليه الصلاة والسلام. إشراقات في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله...) قال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ))[الصف:14] (الحواريون) هم أصحاب عيسى ، كانوا اثني عشر رجلاً، والكلمة يقال: إنها ليست عربية، يقال إنها: حبشية، وبعضهم يقول: إنها عربية، من الحور وهو شدة البياض، وكانوا غسالين، ثيابهم بيض تلمع، وهذا جيد بحد ذاته، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتواصون بهذا المعنى، وكان عمر و أبو سعيد وغيرهم يعجبهم من القارئ والطالب أن يكون حسن الثياب، طيب الرائحة، فهؤلاء الحواريون كانوا أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، و عيسى قال لهم ولغيرهم، وكما في الآية الأخرى، أنه خاطب الناس كلهم بذلك.وقال: ((مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ))[الصف:14]، من الذين سيكونون أنصاراً لي في طريقي إلى الله؟ في سعيي إلى نصرة الله، وإلى إقامة دين الله عز وجل، فـ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ))[الصف:14]، وأجابوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى ذلك، وهنا لما قال: كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم ؛ لأن الإسلام لا يزال في بدايته، و دين عيسى ظل قروناً طويلة وهو ضعيف، حتى جاء قسطنطين فتبناه وأشهره. أما هذا الدين -فسبحان الله- كما قال ربنا: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ))[التوبة:33]، فهو لم يزل ظاهراً منذ وجد، وما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأى الظهور بعينيه.ومن هنا قال: ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ))[الصف:14]، بعضهم آمنوا بـعيسى وبعضهم كفروا به، ولم يقاتلوا، لم يكن الأمر قتالاً، لكن الله تعالى قال: ((óأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ))[الصف:14]، أيدهم بالحجة، أيدهم بالتوفيق، أيدهم بالقدر، فأصبحوا ظاهرين، ظاهرين بالحجة، ومنصورين أيضاً، هذا متناسب مع الإشارة إلى ظهور الإسلام ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))[التوبة:33]، ((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))[التوبة:32]، ومتناسب مع قوله سبحانه في أول السورة: ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الصف:1] فهو أظهر أولياءه ولو كانوا قليلاً، إن الله تعالى نصرهم وأظهرهم وأيدهم. وفي هذه السورة كثير من الدروس والعبر والمعاني، لعلها تبينت خلال هذا العرض.